[المطلب السابع عشر]
صفة البقاء ورؤية الله فى الآخرة
· أولية الله أولية ذاتية وأولية وصفية وأولية فعلية .
· الأولية ودوام القدرة والخالقية والفاعلية .
· تحقيق المراد لأهل الجنة علقه الله بمشيئتهم إكراما لهم .
· شتان بين ما يبقى ببقاء الله وما يبقى بإبقائه .
· الأدلة النقلية على إثبات رؤية الله فى الآخرة .
· مذاهب الناس فى رؤية العبد لربه .
· الرد على شبهات المعتزلة فى نفى الرؤية .
· الأدلة على أن النبى لم ير ربه فى الدنيا بعينيه .
· الخلاف فى الرؤية المنامية لله دون العينية .
· إثبات توحيد الله فى صفة اليدين والأصابع والعينين .
· الرد على شبهة تأويل اليدين بالنعمة أو القدرة .
· الرد على الأشعرية فى تأويلهم للعينين بالرعاية .
صفة البقاء ورؤية الله فى الآخرة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد
فى هذا المطلب نتناول بإذن الله الحديث عن صفة الأولية والبقاء ورؤية الله تعالى فى الآخرة، وهل رأى النبى r ربه فى الدنيا رؤية عينية أم منامية؟ وذلك من خلال المحاور التالية :
أولية الله أولية ذاتية وأولية وصفية وأولية فعلية
القصد بالأولية والآخرية : إثبات دوام الغنى بالنفس أزلا وابدا ، بحيث يبقى غنيا بذاته على الدوام ، لا يحتاج إلى غيره فى شئ ، وهو أساس الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات .
فعقيدة أهل السنة والجماعة : أن توحيد الربوبية والأسماء والصفات ، يقوم على إثبات وصف الأولية لله بلا قبلية ، والآخرية بلا بعدية ، ولازمه وصف الغنى والكمال ؛ كوصف ذاتى انفرد به رب العزة والجلال .
ومن عقيدتهم أيضا : أن توحيد الله بالعبودية ، يقوم على إثبات وصف الأولية للمخلوق بالقبلية، والآخرية بالبعدية ، ولازمه وصف الحاجة والافتقار ؛ كوصف ذاتى لكل مخلوق على وجه الاضطرار.
قال الطحاوى : " ما زال بصفاته قديما قبل خلقه ، لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته ، وكما كان بصفاته أزليا ، كذلك لا يزال عليها أبديا " .
أى أن الله تعالى لم يزل متصفا بصفات الكمال ، صفات الذات ، وصفات الفعل ، ولا يجوز أن يعتقد أن الله تعالى وصف بصفة بعد أن لم يكن متصفا بها ؛ لأنه متصف بصفات الكمال ، ولا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال ، بعد أن كان متصفا بضده .
ولا يرد على هذا صفات الأفعال كالخلق ، والتصوير ، والإماتة ، والإحياء ، والقبض ، والبسط، والطى ، والاستواء ، والنزول ، والغضب ، والرضا ، ونحو ذلك من الأفعال التى تحدث فى وقت دون وقت ، كما ورد فى حديث الشفاعة : " إن ربى قد غضب اليوم غضبا ، لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله " . ( البخارى )
فلابد أن نفرق بين الفعل ووصف الفعل ، فكلاهما يتعلقان بالمشيئة ، وينفرد الفعل بزيادة التعلق بالزمن ، فإن شاء فعل ، وخلق ما شاء ، فى الوقت الذى يشاء . قال تعالى : " قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ " (آل عمران : 40) وقال تعالى : " قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ " (آل عمران : 47)
الأولية ودوام القدرة والخالقية والفاعلية
إذا كان الله عز وجل هو الأول الذى ليس قبله شئ ، فهل يعنى ذلك أنه كان معطلا عن الفعل ، ثم أصبح خالقا فاعلا قادرا بعد أن لم يكن ؟
والجواب : أن الله موصوف بأنه مريد فعال أزلا وأبدا ، يفعل ما يشاء ، وقت ما يشاء ، قال ابن أبى العز : " لما كان تسلسل الحوادث فى المستقبل لا يمنع أن يكون الرب سبحانه هو الآخر الذى ليس بعده شئ .
فكذا تسلسل الحوادث فى الماضى ، لا يمنع أن يكون سبحانه وتعالى هو الأول الذى ليس قبله شئ .
فإن الرب سبحانه وتعالى لم يزل ، ولا يزال ، يفعل ما يشاء ، و يتكلم إذا يشاء " .
وقد بين الله تعالى أنه قبل وجود السموات والأرض ، لم يكن سوى العرش والماء، فالله أعلم هل توجد مخلوقات قبل العرش والماء أم لا ، وإن كنا نعتقد أن وجودها أمر ممكن ، فهو يخلق ما يشاء ، ويفعل ما يشاء ، وهو على كل شئ قدير .
وهذه المسألة تسمى فى باب العقيدة بالتسلسل ، وهو : ترتيب وجود المخلوقات فى متوالية مستمرة غير متناهية من الأزل والأبد . قال ابن أبى العز : " والتسلسل لفظ مجمل ، لم يرد بنفيه ولا إثباته كتاب ولا سنة ، ليجب مراعاة لفظه "
ومعتقد السلف الصالح أن التسلسل فى الأزل جائز ممكن ، وفى المستقبل واجب ، وفى المؤثرات ممتنع ، ولا يلزم من ذلك أن الخلق يشارك الله عز وجل فى الأزلية والأبدية ؛ لأنه فرق كبير بين ما يبقى ببقاء الله كذاته وصفاته ، وما يبقى بإبقاء الله كمخلوقاته ومصنوعاته .
والتسلسل الواجب علينا اعتقاده هو : ما دل عليه العقل والنقل ، فالواجب علينا اعتقاد دوام أفعال الرب تعالى فى الأبد ، وأن وجود مخلوقاته ومفعولاته فى الأبد والمستقبل ، متوال غير منقطع أبد الآبدين ، وإن تغيرت صورها وعللها ، بمعنى أن الوجود فى الدنيا صورته مستمرة ؛ لعلة الابتلاء ، ويتغير الوجود فى الآخرة إلى صورة أخرى ؛ لعلة الجزاء ، فكلما انقضى لأهل الجنة نعيم ، أو لأهل النار عذاب ، أحدث لهما نعيما وعذابا آخر لا نفاد لهما .
تحقيق المراد لأهل الجنة علقه الله بمشئيتهم إكراما لهم
تحقيق المراد لأهل الجنة علقه الله بمشيئتهم إكراما لهم ، وإظهارا لمحبتهم ، قال تعالى : "لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ " ( ق : 35) .
بعكس الوضع فى الدنيا ، فتحقيق المراد لأهل الدنيا ، علقه الله بمشيئته لا بمشئيتهم ، ابتلاء لهم وإظهارا لإيمانهم . قال تعالى : " مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا " ( الإسراء : 18)
شتان بين ما يبقى ببقاء الله وما يبقى بإبقائه
كيف نجمع بين وصف الله بأنه الآخر الذى ليس بعده شئ ، وبقاء المخلوقات فى الجنة ودوامها وأبديتها ؟
لابد هنا أن نفرق فى قضية البقاء بين : ما يبقى ببقاء الله ، وما يبقى بإبقاء الله ، أو نفرق بين : بقاء الذات والصفات الإلهية ، وبقاء المخلوقات التى وجدت بالصفات الإلهية .
فالجنة مثلا باقية بإبقائه ، وصفاته باقية ببقائه ، وشتان بين ما يبقى ببقائه ، وما يبقى بإبقائه ، ومن ثم فإن السلف يعتبرون خلد الجنة وأهلها ، إنما هو بإبقاء الله وإرادته ، وبمدد دائم من الله لا ينقطع ، فالبقاء عندهم ليس من طبيعة المخلوقات ، ولا من خصائصها الذاتية ، بل من طبيعتها الفناء .
أما صفات الله ومنها : وجهه ، ويده وعينه ، وعلوه ، وعزته ، وملكه ، فهى صفات باقية ببقاء ذاته سبحانه ، حيث البقاء صفة ذاتية له . وقد فرق القرآن بين نوعين من البقاء :
الأول : قوله تعالى : " وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ " ( الرحمن : 27) فالآية دلت على أن بقاء صفة الوجه ببقاء الذات ، فأثبتت بقاء الذات بصفاتها ، وأثبتت فناء ما دونها .
الثانى : قوله تعالى : " وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى " ( الشورى :36) فبقاء المخلوقات الذى ورد فى الآية لا لذاته ، لكن بعطاء مستمر من الله عز وجل لإكرام أهل طاعته ، وإنفاذ عدله فى أهل معصيته .
الأدلة النقلية على إثبات رؤية الله فى الآخرة
اعتقاد أهل السنة والجماعة أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة عيانا بأبصارهم ، كما يرون الشمس صحوا ، ليس دونها سحاب ، وكما يرون القمر ليلة البدر ، لا يلحقهم ضيم فى طلب رؤيته حين يُرى ، يرونه سبحانه وهم فى أرض المحشر ، ثم يرونه بعد دخول الجنة .
قال تعالى : " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ " (القيامة : 22) قال أبو الحسن الأشعرى : " إما أن يكون الله سبحانه عنى نظر الاعتبار ، كقوله تعالى : " أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ " ، أو يكون عنى نظر الانتظار ، كقوله : " مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ " أو يكون عنى نظر التعطف ، كقوله : " إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " أو يكون عنى نظر الرؤية ، وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع وهو : أن معنى " إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ " أنها رائية ترى ربها " .
عن جرير بن عبد الله قال : كنا جلوسا عند النبى r إذ نظر إلى القمر ليلة البدر ، قال : "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامون فى رؤيته ". ( البخارى )
قال ابن القيم رحمه الله : " دل القرآن والسنة المتواترة وإجماع الصحابة وأئمة الإسلام وأهل الحديث على أن الله سبحانه يرى يوم القيامة بالأبصار عيانا ، كما يرى القمر ليلة البدر صحوا ، وكما ترى الشمس فى الظهيرة ". وقال الطحاوى : " والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ، ولا كيفية " .
مذاهب الناس فى رؤية العبد ربه
المسلمون فى رؤية الله تعالى على ثلاثة أقوال :
القول الأول : وهو قول الصحابة ، والتابعين ، وسائر السلف ، ومن سار على نهجهم من أئمة المسلمين ، جميعهم على أن الله تعالى يرى فى الآخرة بالأبصار عيانا ، وأن أحدا لا يراه فى الدنيا
القول الثانى : قول نفاة الجهمية أن الله لا يرى فى الدنيا ولا فى الآخرة ، وأجمعت المعتزلة عليه.
القول الثالث : قول غلاة الصوفية فيزعمون أنه يرى فى الدنيا والآخرة ، ولا يرى فى الدنيا والآخرة، كقول ابن عربى وأصحاب وحدة الوجود ، الذين يرون الذات الإلهية متجلية فى الوجود.
القول الرابع : قول الأشعرية وأغلب المتكلمين أن الله لايرى فى الدنيا ، ويرى فى الآخرة لا فى جهة ، فاشترطوا شروطا جعلوا الرؤية فيها من المستحيلات ، ولذلك قال بعضهم : لا خلاف بيننا وبين المعتزلة على الرؤية ، بل كلنا على الرؤية العلمية لا البصرية .
الرد على شبهات المعتزلة فى نفى الرؤية
استدلت المعتزلة بقوله تعالى : " قَالَ لَنْ تَرَانِي " (الأعراف : 143) وبقوله تعالى : " لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ " (الأنعام : 103) على نفى رؤية الله ، التى يقطعون بأدلتهم العقلية بأن إثباتها تجسيم وتشبيه باطل ، واستدلالهم بالقرآن على عدم الرؤية ، دليل ثانوى بعد دلالة العقل .
وقد ذكر ابن أبى العز الحنفى أن الآيتين دليل عليهم ، وعلى إثبات الرؤية ، كالآتى:
1- أنه من المحال أن يسأل كليم الله ، وأعلم الناس بربه فى وقته ، ما لا يجوز عليه .
2- أن الله عز وجل لم ينكر عليه سؤاله ، كما أنكر على نوح لما سأل ربه نجاة ابنه .
3- أنه تعالى قال : " لَنْ تَرَانِي " ولم يقل : إنى لا أرى . وهذا يدل على أنه سبحانه مرئى ولكن تضعف قوى البشر عن رؤيته فى هذه الدار .
4- قوله تعالى : " فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا " (الأعراف :143) فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته ، لا يثبت للتجلى فى هذه الدار ، فكيف بالبشر الذى خلق من ضعف .
5- أن الرؤية لو كانت محالا لعلقها بمستحيل ، كقوله تعالى : " إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ " (الأعراف : 40)
6- إذا جاز أن يتجلى للجبل الذى هو جماد ، فكيف يمتنع أن يتجلى لأوليائه فى دار كرامته ؟
7- أن من جاز عليه التكليم ، فرؤيته أولى بالجواز ، ولهذا لا يتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه.
8- فساد دعواهم تأبيد النفى بـ "لَنْ تَرَانِي" ؛ لأن (لن) لو كانت للتأبيد المطلق ، لما علق الفعل بعدها بثبوت الجبل ، وقد جاء مثل ذلك فى قوله تعالى : " فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي " ( يوسف : 80) . وقال ابن مالك فى ألفيته :
ومن رأى النفى بلن مؤبدا فقوله اردد وسواه فاعضدا
وأما قوله : " لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ " فالاستدلال بها على ثبوت الرؤية من وجه حسن لطيف ، وهو أن الله تعالى إنما ذكرها فى سياق التمدح ، والعدم المحض ليس بكمال ، فلا يمدح به ، وإنما يمدح الرب تعالى بالنفى إذا تضمن أمرا وجوديا ، وهو كمال المقابل .
ولهذا فإن المعنى فى الآية : ( أنه يرى ، ولا يدرك ولا يحاط به ) أى : أنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به ؛ فإن الإدراك هو : الإحاطة بالشئ ، وهو قدر زائد على الرؤية ، كما قال تعالى : " فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ "( الشعراء :61) " فلم ينف موسى عليه السلام الرؤية ، وإنما نفى الإدراك ، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه ، فالرب تعالى يرى ولا يدرك ، كما يعلم ولا يحاط به علما ، بل هذه الشمس لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هى عليه .
الأدلة على أن النبى لم ير ربه فى الدنيا بعينيه
أجمعت الأمة على أن الله عز وجل لا يراه أحد فى الدنيا بعينه ، قال رسول الله r: " تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت " ( مسلم )
وعن عائشة رضى الله عنها قالت : " من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم ، ولكن قد رأى جبريل فى صورته وخلقُه سادٌّ ما بين الأفق " . ( البخارى )
وعن أبى ذر رضى الله عنه قال سألت رسول الله r: هل رأيت ربك ؟ قال :" نور أَنَّى أراه ".
( مسلم )
الخلاف فى الرؤية المنامية لله دون الرؤية العينية
ذكر ابن تيمية أن أئمة المسلمين اتفقوا على أن أحدا من المؤمنين لا يرى الله عز وجل بعينه فى الدنيا .
ولم يتنازعوا إلا فى النبى r وقد اتفقوا أيضا على أنه r لم ير ربه بعينه فى الأرض، أو أن الله ينزل له إلى الأرض ، وعلى هذا دلت الآثار الصحيحة .
بل إن النصوص الصحيحة على نفيه ، كما فى حديث أبى ذر . قال ابن تيمية : " وقد قال تعالى : " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى " ( الإسراء : 1) ولو كان قد أراه نفسه بعينه ، لكان ذكر ذلك أولى ... وليس فى شئ من أحاديث المعراج الثابتة ذكر ذلك ، ولو كان قد وقع ذلك ، لذكره كما ذكر ما دونه " .
وذكر ابن تيمية أن الإنسان قد يرى ربه فى المنام ويخاطبه فهذا حق فى الرؤيا ، ولا يجوز أن يعتقد أن الله عز وجل فى نفسه مثل ما رأى فى المنام ؛ لأن النائم لا يرى الله حقيقة ، ورؤيا المنام لها تعبير وتأويل ؛ لما فيها من الأمثال المضروبة للحقائق .
إثبات توحيد الله فى صفة اليدين والأصابع والعينين
قال بعض الأشعرية المعاصرين : " وليت شعرى أيثبت هؤلاء الجاهلون كل ما ورد من تلك الظواهر ، فيثبتون له يدا بمقتضى قوله : " يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ " ( الفتح : 10 ) أم يدين ، بمقتضى قوله : " بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ " ( المائدة : 64) أم أيد عديدة بمقتضى قوله : " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا " ( يس : 71) " .
ومثل هذا الأشعرى يحاول أن يجعل صفة اليدين شيئا معنويا لا حقيقة له ، ومذهب أهل السنة والجماعة هو إثبات ما أثبته الله لنفسه ، وما أثبته له r من أن لله تعالى يدين حقيقيتين هما من صفات ذاته ، ونثبتهما من غير تمثيل ، ولا تكييف ، ومن غير تعطيل ولا تحريف .
ومن الأدلة على ذلك : قوله تعالى : " وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ " ( المائدة : 64) فالله عز وجل لم ينكر على اليهود وصفهم له باليد ، وإنما أنكر عليهم وصف اليد بالغلول . وفى حديث الشفاعة : قول الناس لآدم عليه السلام : " أنت أبو الناس خلقك الله بيده " ( البخارى) فجعلوا خلق الله لآدم بيده ميزة له .
كما أن اليد وصفت بأوصاف تدل على أنها حقيقية منها : القبض ، وهو فى اللغة : إمساك الشئ بجميع كف اليد ، بعد تناوله . قال النبى r : " إن الله يقبض يوم القيامة الأرض ، وتكون السموات بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك " ( البخارى) وقد وردت رواية فيها ذكر الشمال: " ثم يطوى الأرضين بشماله " وهو يدل على إثبات اليدين لله .
وأما قوله فى الحديث الآخر: " وكلتا يديه يمين " أى بالنسبة للكمال ؛ فإحدى يديه تعالى فيها الفضل ، كما فى الحديث : " يد الله ملأى " أما اليد الأخرى ففيها العدل لقوله : "وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع " ومعلوم أن الفضل يمن ، والعدل يمن ، وكلاهما كمال لله تعالى فكلتا يديه يمين ، ولكن الفضل أيمن من العدل ، فاليمين فيها الفضل والشمال فيها العدل .
ووصفت اليد بالأصابع التى تدل على أن اليد حقيقية وليست مجازية ، كما فى حديث الحبر اليهودى .
الرد على شبهة تأويل اليدين بالقدرة أو النعمة
أغلب المتكلمين يؤولون اليدين إما بالقدرة ، أو النعمة تارة ، أو بالخزائن تارة أخرى ، وقد أرادوا بذلك أن يجعلوها شيئا مجازيا ، ومعان لا تدل على يدين حقيقيتين . والرد عليهم من وجوه:
1- الأصل عدم صرف النص عن ظاهره إلا بدليل ، وليس لديهم دليل على تأويل اليدين بالقدرة أو النعمة فى سياق التثنية ، ولم يقل به أحد من السلف الصالح ، فهو قول على الله بغير علم .
2- تناقضهم يدل على بطلان قولهم ، فهل اليدان قدرة أم نعمة أم خزائن ؟ وهل يمكن الجزم بأن هذا ما أراده الله من الآيات ؟
3- تنوعت النصوص على إثبات اليدين ، ووصفها بأوصاف تمنع تأويلها بالقدرة أو النعمة .
4- ليس من لغة العرب استخدام الواحد فى الاثنين ، فلا تقول عندى رجل وأنت تعنى رجلين ، ولا استخدام الاثنين فى الواحد ، فلا تقول عندى رجلان وأنت تعنى جنس الرجال . فلا يجوز تأويل اليدين بالقدرة لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز تأويل اليدين بالنعمة لأن نعم الله لا تحصى.
5- الآيات الثلاث نرد فيها المبهم إلى المحكم ، والمحكم فيها هو قوله تعالى : " بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ " وقد أحكم الله فيها إثبات يدين حقيقيتين ، وأما قوله تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا " فالمقصود من الجمع التعظيم ، فلما قال فى بداية الآية : " خَلَقْنَا " قال :
" أَيْدِينَا " ولما قال : خلقت ، قال : بيدَىّ .
وأما قوله تعالى : " يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ " فإطلاق اليد هنا من باب تسمية الشئ باسم سببه ، فقد تكون بمعنى القدرة ؛ لأن القدرة هى أثر فعل اليد ، ولا يقال : يد ، لمن ليس له يد .
الرد على الأشعرية فى تأويلهم العينين بالرعاية
قال بعض الأشعرية المعاصرين : " وليت شعرى أيثبت هؤلاء الجاهلون كل ما ورد من تلك الظواهر ، فيثبتون له عينا بمقتضى قوله تعالى : "وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي" ( طه : 39) أم أعينا بمقتضى قوله تعالى : " تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا " ( القمر : 14) ". وهو هنا يحاول أن يجعل النصوص الثابتة فى صفة العينين ، تدل على أمور مجازية لا حقيقة لها ولا وجود . وقد دل كتاب الله تعالى وسنة ورسوله r وإجماع أهل العلم على أن الله موصوف بأن له عينين حقيقة ، على ما يليق بجلاله وعظمته.
وقد جاء ذكر العين وصفا لله تعالى فى القرآن مفردة مضافة إلى ضمير المفرد ، كما جاءت مجموعة مضافة إلى ضمير الجمع كما فى هاتين الآيتين ، ولم يأت ذكر العين فى القرآن مثناة ، ولكن جاء ذلك فى السنة .
قال ابن القيم : " ذكر العين مفردة لا يدل على أنها واحدة ، ليس إلا كقولك : أفعل هذا على عينى ، لا يريد أن له عينا واحدة ، ولما أضيفت العين إلى اسم الجمع ظاهرا أو مضمرا حسن جمعها مشاكلة للفظ ، كقوله تعالى : " تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا " .
ومن الأحاديث التى تثبت العينين لله عز وجل ، كما يليق بجلاله ، ما رواه البخارى عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه قال : ذكر الدجال عند النبى r فقال : " إن الله لايخفى عليكم ، إن الله ليس بأعور ، وأشار بيده إلى عينه ، وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى ، كأن عينه عنبة طافية ".
ووجه دلالة الحديث أن العور فقد احد العينين وذهاب نورها ، فهذا يدل على أن لله عز وجل عينين حقيقيتين كما يليق بجلاله ، دون تمثيل أو تكييف ، وغير معنويتين دون تعطيل أو تحريف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق