[المطلب الثامن عشر]
صفة الكلام وبدعة القول بخلق القرآن
· عقيدة السلف فى صفة الكلام وتوحيد الله فيها .
· أقوال الناس فى صفة الكلام بين النفى والإثبات .
· مناقشة الأشعرية فى صفة الكلام والرد عليهم .
· مذهب الأشعرية لايمكن وصفه بالوسطية .
· كيف ظهرت بدعة القول بخلق القرآن .
· رسالة المأمون فى خلق القرآن وما فيها من زور وبهتان .
· حجة المأمون فى القول بخلق القرآن والرد عليه .
· بطلان ادعاء تكفير علماء السلف للمعتزلة .
· إحداث البدعة يفتح بابا لتوالى الابتداع .
صفة الكلام وبدعة القول بخلق القرآن
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
فى هذا المطلب نتناول بإذن الله الحديث عن صفة الكلام وإثباتها لله عز وجل ، وما حدث للأمة الإسلامية بسبب المعتزلة لما هيمنوا على الخلافة ، أيام الخليفة المأمون بن هارون الرشيد، وألزموا الناس بخلق القرآن أو حملهم على السيف ، وذلك من خلال المحاور التالية :
عقيدة السلف فى صفة الكلام وتوحيد الله فيها
يمكن بيان معتقد السلف الصالح فى صفة الكلام من خلال النقاط التالية :
أولا : أن الله يتكلم بالكيفية التى تليق بجلاله ، كما قال تعالى فى سائر أسمائه وصفاته وأفعاله : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " (الشورى : 11) ولا يلزم من إثبات صفة الكلام التشبيه والتجسيم ، بل أخبرنا الله تعالى أن بعض المخلوقات تتكلم دون جارحة لإخراج الحروف . قال تعالى : " الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " ( يس : 65) وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : " ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل " (البخارى) ولذلك فإن أصل قياس الخالق على المخلوق قياس فاسد لا يجوز .
ثانيا : أن الكلام صفة ذات ، والتكليم صفة فعل . وكونه من صفات الذات لأنه من لوازم الكمال ، والله تعالى له الكمال المطلق ، ولهذا ذم بنى إسرائيل لاتخاذهم عجلا لا يتكلم إلها من دون الله .
والتكليم من صفات الأفعال ؛ لأن الله يتكلم بمشئيته ، فإن شاء كلم من شاء من خلقه .
ثالثا : أنه سبحانه يتكلم بحرف وصوت يسمع ، سمعه جبريل عليه السلام ، وسمعه موسى عليه السلام وسمعه محمد صلى الله عليه وسلم .
والأدلة كثيرة منها :
قوله تعالى : " تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ " ( البقرة : 253)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعُد كما يسمعه من قَرُب: أنا الملك أنا الديان " ( صححه الألبانى )
وقد تواترت الأدلة بما لا يدع مجالا للشك على ثبوت صفة الكلام لربنا عز وجل ، وأنه يتكلم إذا شاء بما يشاء وكيف يشاء ، وأنه يتكلم بكلام يسمعه من يشاء ، وأن القرآن الكريم بجميع حروفه ومعانيه نفس كلامه الذى تكلم به حقا ، لا هو من تأليف ملك ، ولا هو من تأليف بشر ، وليس ألفاظ القرآن ترجمة ترجم بها جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم عما قام بالرب من المعنى من غير أن يتكلم به .
أقوال الناس فى صفة الكلام بين النفى والإثبات
1- قول الفلاسفة : هو ما يفيض على النفوس من معانى ، ويقولون أن الله كلم موسى عليه السلام من سماء عقله ، أى : بكلام حدث فى نفسه لم يسمعه من خارج .
2- قول المعتزلة : أنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه . وقولهم مبنى على أصلهم الأول حيث ينفون أوصاف الله تحت مسمى التوحيد ونفى التشبيه ، فعطلوا وصف الكلام عن الله ، وزعموا أن الذى تكلم به محمد صلى الله عليه وسلم ، ومحمد صلى الله عليه وسلم مخلوق ، فكلامه مخلوق .
3- قول الكلابية والأشعرية : أنه معنى واحد قائم بذات الله لا يمكن سماعه ، وإن عُبِّر عنه بالعربية كان قرآنا ، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة .
4- قول أئمة الحديث والسنة : مذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين هو أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، فهو المتكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من كلامه ، ليس مخلوقا منفصلا عنه ، بل هو صفة قائمة بذاته ، وهو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته، فلم يزل الله عز وجل متكلما إذا شاء، ومتى شاء ، وكيف شاء ، وهو يتكلم به بصوت يُسمَع .
مناقشة الأشعرية فى صفة الكلام والرد عليهم
زعم الأشعرية أنهم هم أهل السنة والجماعة ، وأن مذهبهم وسط بين طريقى الإفراط من المعتزلة والتفريط من الحشوية ، ومرادهم بالحشوية : علماء السلف الصالح الذين أثبتوا الصفات على مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن حيدرة : " ومذهبنا هو الحق المبين ، وهو أن الله تعالى متكلم بكلام أزلى قديم كسائر صفاته ، وأن حقيقة الكلام أنه معنى قائم بالنفس ، وليس بحرف ولا صوت ، وإنما يستدل عليه بالحروف والأصوات " .
ولازم قولهم : أن الله لا يتكلم بصوت يسمع ، وإنما كلامه معنى واحد ، وإشارات مجملة يفهمها جبريل عليه السلام ويستوعبها بغير أن يسمعها ، ثم يفصلها بطريقته الخاصة إلى الأمر والنهى والخبر والاستخبار ، ويعبر عن ذلك باللغات المناسبة ؛ فإذا عبر عنه بالعربية كان قرآنا ،وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا .
والذى دفعهم إلى ذلك هو قياس كلام الخالق على كلام المخلوق بقياس تمثيلى أو شمولى ، واعتقادهم أن الكلام لا يكون إلا بجارحة بها مخارج الحروف التى يصدر منها الكلام .
ولذلك عددوا القيود والشروط السلبية ، حتى يثبتوا لله صفة الكلام وهم كارهون .
وأبرز دليل يستدلون به على أن كلام الله هو الكلام النفسى ، هو قول الأخطل النصرانى :
إن الكلام لفى الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وهذا استدلال فاسد ، ولا يجوز الاحتجاج به لكونه بعد عصر الاحتجاج على لغة العرب ، كما أن النصارى قد ضلوا فى معنى الكلام ، وزعموا أن عيسى عليه السلام نفس كلمة الله ، واتحد اللاهوت بالناسوت ، فاختلط شئ من الإله بشئ من الناس ! فكيف يصح الاستدلال على حقيقة كلام الله ، بقول نصرانى قد ضل فى معنى الكلام ؟
ولازم قولهم أن الأخرس يسمى متكلما لقيام الكلام بقلبه ، وإن لم ينطق به ، ولم يسمع منه ، ولزم أن لا يكون الذى فى المصحف كلام الله ، ولكن عبارة عنه ، كما لو أشار أخرس إلى شخص بإشارة فهم بها مقصوده ، فكتب ذلك الشخص عبارته عن ذلك المعنى ؛ فعندهم أن جبريل فهم من الله عز وجل معنى قائما بنفسه ، ولم يسمع منه حرفا ولا صوتا ، ثم عبر عنه بلغة العرب ، فهو الذى أحدث نظم القرآن .
ويقال لمن قال إنه معنى واحد : هل سمع موسى عليه السلام جميع الكلام أو بعضه ؟
فإن قال : جميعه ، فهو ظاهر الفساد ؛ لأن كلمات الله لا تنفد .
وإن قال : بعضه ، فقد خالف قوله بأنه معنى واحد .
وأما من قال بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس ؛ فيُرَد عليه بحديث النبى r : " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس " (مسلم) واتفق العلماء على أن المصلى إذا تكلم فى الصلاة عامدا بطلت صلاته ، واتفقوا على أن ما يقوم بالقلب من أمور دنيوية لا يبطل الصلاة ، فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام .
وقال النبى صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز لأمتى ما حدثت به أنفسها ، ما لم يتكلموا أو يعملوا به " (البخارى) ففرق بين حديث النفس ، وبين الكلام .
وقال تعالى : "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ " (الإسراء : 88) أفَتراه سبحانه يقول : لا يأتون بمثل ما نفسى مما لم يسمعوه ولم يعرفوه ؟ ومعلوم أن ما فى نفس الله لا حيلة للوصول إليه ؟
فلما عجزوا عن الإتيان بسورة مثله ، تبين إعجازه من جهة نظمه ومعناه ، وأنه من عند الله ، وإلى هذا وقعت الإشارة بالحروف المقطعة فى أوائل السور، تنبيها للعرب أن هذا الرسول الكريم لم يأتكم بما لا تعرفونه ، بل خاطبكم بلسانكم .
مذهب الأشعرية لايمكن وصفه بالوسطية
لاشك أن من قال إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى ، وأن المتلو المكتوب المسموع من القارئ حكاية كلام الله وهو مخلوق ، فقد قال بخلق القرآن وهو لا يشعر، فأى وسطية واعتدال فى القول بخلق القرآن ، وقد تبين أن حقيقة مذهبهم : تشبيه الله بالأخرس الأبكم، الذى يعبر عن مراده الداخلى بإشارات يفهم منها المقصود لعدم قدرته على الكلام ، سبحانه وتعالى عن وصفهم .
كيف ظهرت بدعة القول بخلق القرآن
تأصلت فكرة الجهم بن صفوان عند المعتزلة فى استقلال العقل بإثبات الصفات أو نفيها ، فقاموا بتعطيل النصوص محتجين بأن إثباتها يدل على التشبيه والمحال ، ثم استفحل أمرهم ، وكثر عددهم ، وتولوا المناصب القيادية زمن الخلافة العباسية .
وفى بداية القرن الثالث الهجرى تصادق المأمون بن هارون قبل توليه الخلافة ، مع بشر بن غياث المُرَيِّسى ، أحد دعاة المعتزلة من أصل يهودى ، وكان عالم الجهمية فى عصره ، فمقته أهل العلم ، وناظروه ، وكفروه .
واختلط المأمون أيضا برجل يقال له أحمد بن أبى دؤاد ، وكان من أشد المتعصبين للمذهب الاعتزالى ، وقد أشار على المأمون أن يكتب على سترة الكعبة : ليس كمثله شئ وهو العزيز الحكيم بدلا من قوله تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"( الشورى : 11) لنفى وصف الله بالسمع والبصر .
فلما قرب المأمون هؤلاء الرجال من المعتزلة ، أقنعوه ببدعتهم ، ونصحوه أن يلزم الناس أن يقولوا بقول المعتزلة إرضاء لربهم وصلاحا لدينهم بزعمهم ، ففرض المأمون على الناس بدعة تعطيل الصفات ، والقول بخلق القرآن ، واستخدم قوة الدولة فى إلزام الناس بتلك البدعة، ولم تعد المسألة كلاما فاسدا يطوف على ألسنة الناس بين مستحسن ومنكر ؛ بل أصبح الأمر خطرا داهما يهدد المسلمين فى كل مكان ، وانقسم الناس إلى فريقين :
الفريق الأول : أهل القوة والمكانة أتباع الخليفة ، يوافقونه على رأى المعتزلة ، ويعتقدون أن القرآن مخلوق ، ومن قال بغير قولهم ، فهو عندهم كافر مشبه يستوجب القتل .
الفريق الثانى : فريق مستضعف يمثلهم علماء أهل السنة وعامة الناس من الضعفاء وغيرهم . وهؤلاء يقولون بأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، ويؤمنون بصفات الله من غير تمثيل ولا تكييف ومن غير تعطيل ولا تحريف
واشتدت المواجهة بين الفريقين ، ولم يبق أحد من فقيه ، ولا محدث، ولا مؤذن ، ولا معلم إلا أخذ بالمحنة ، وهرب كثيرا من الناس فرارا بدينهم ، وملئت السجون ، ومنع العلماء من أصحاب مالك والشافعى وأحمد من تبليغ العلم فى المساجد ، وكتب على أبواب المساجد : لا إله إلا الله رب القرآن وخالقه .
رسالة المأمون فى خلق القرآن وما فيها من زور وبهتان
أوجب الخليفة على كل مسلم أن ينفى عن الله صفة الكلام ، ويقر بخلق القرآن ، وقد نصر الله سنته بالإمام أحمد بن حنبل ، حتى قيل : أبو بكر ليوم الردة ، وعمر ليوم السقيفة ، وأحمد ليوم البدعة .
بدأت المحنة الحقيقية عام 218ه عندما أرسل المأمون كتابه الشهير إلى إسحاق بن إبراهيم والى الخليفة على بغداد ، يلزم الناس فيه أن يقروا بخلق القرآن ، فجاء فيه :
" أما بعد فإن حق الله على أئمة المسلمين وخلفائهم الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم ، ومواريث النبوة التي أورثهم ، وأثر العلم الذي استودعهم ، والعمل بالحق في رعيتهم، والتشمير لطاعة الله فيهم" .
ومن المعلوم أن الاجتهاد المحمود ، هو الاجتهاد لخدمة دين الله بعد تقديم النصوص ، فلا اجتهاد مع نص، لكن الاجتهاد الذى دعا إليه المأمون اجتهاد هدم به عقيدة أهل السنة ، وهو يظن أنه يحسن صنعا .
ثم قال :
"واللهَ يسأل أمير المؤمنين أن يوفقه لعزيمة الرشد وصريمته ، والإقساط فيما ولاه الله من رعيته برحمته ومنته .
وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة - ممن لا نظر له ولا روية، ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته، والاستضاءة بنور العلم وبرهانه في جميع الأقطار والآفاق ـ أهل جهالة بالله وعمى عنه وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به، ونكوب عن واضحات أعلامه وواجب سبيله، وقصور أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه، لضعف آرائهم ونقص عقولهم، وجفائهم عن التفكير والتذكر."
إن أهل الجهالة والعمى هم الذين أعرضوا عن كتاب الله وسنة رسوله ، وارتضوا أحكام العقول بديلا . ثم بين المأمون السبب فى وصفه لهم بالجهالة والضلالة فقال :
"وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى ، وبين ما أنزل من القرآن ، فأطبقوا مجتمعين ، واتفقوا غير متعاجمين ، على أنه قديم أول، لم يخلقه الله ويحدثه ويخترعه ..."
ثم قال المأمون يصف علماء السلف بأن الله أعماهم وأصم أبصارهم :
" وقد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ، ودرسوا ما فيه ، أولئك الذين أصمهم الله وأعمى أبصارهم "
ثم قال يصفهم بأنهم شر الأمة :
"فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ، ورؤوس الضلالة ، المنقوصين من التوحيد حظا ، والمبخوسون من الإيمان نصيبا ، وأوعبة الجهالة ، وأعلام الكذب ، ولسان إبليس الناطق فى أوليائه" .
انظر مدى تمسك المأمون بمذهب المعتزلة ؟ وكيف أسهمت بطانة السوء من المعتزلة فى إضلال الخليفة ، حتى صار يعتبر مخالفيه من السلف الصالح هم شر الأمة ورؤوس الضلالة !!
حجة المأمون فى القول بخلق القرآن والرد عليه
لما قرر المعتزلة بعقولهم أن القرآن مخلوق ، خلقه الله كما خلق سائر الأشياء ، وجدوا أن عامة الناس لن يصدقوا كلامهم لمخالفته صريح القرآن ، ولن يعتقدوا فى كلامهم إلا بدليل من قرآن وسنة ، فنظروا فى كتاب الله ليجدوا دليلا يقوى آراءهم ، وهم فى حقيقة الأمر يضربون به عرض الحائط ، ومن ذلك ما قاله المأمون فى رسالته :
" وقد قال الله عز وجل في محكم كتابه : " إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " (الزخرف:3) فكل ما جعله الله فقد خلقه. "
وهذا كلام باطل يدل على جهلهم بكتاب الله ولغة العرب ، لأن (جعل) فى الآية ليست بمعنى (خلق) ، فلفظ (جعل) قد يضاف إلى الله عزوجل، وقد يضاف إلى المخلوق، فإذا أضيف إلى الله فهو على معنيين :
المعنى الأول: هو المعنى الكوني . ويعني الخلق والتقدير ، والتكوين والتدبير ، الذى يقع لا محالة ، كقول الله تعالى: " أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا . وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا . وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (النبأ : 6-8)
المعنى الثاني: هو المعنى الشرعي الديني ، ومعنى (جعل) هنا : التشريع ، ووضع التكليف الدينى الذى يتضمن أحكام المكلفين ، وشريعة المسلمين ، وهذا قد يقع وقد لا يقع ، كقول الله تعالى : "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا " (المائدة : 48) .
ومن هذا المعنى الشرعي ما ورد في قوله تعالى: " إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " (الزخرف:3) أي أنزل كلامه وشريعته بلغة العرب . وقد بين الله سبحانه السبب فى ذلك فقال : " وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ " (الزخرف:44)
وقد خلط المأمون بين الجعل الكونى ، والجعل الشرعى ، وأن كل ما جعله الله فقد خلقه .
وكذلك (جعل) إذا تعدت إلى مفعول واحد كانت بمعنى (خلق) كما في قوله: " وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ " (الأنعام:1) . وإذا تعدت إلى مفعولين لم تكن بمعنى (خلق) كقول الله تعالى: " وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ " (البقرة:224) وكذلك قوله : " إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا " (الزخرف:3) فإنها تعدت إلى مفعولين .
بطلان ادعاء تكفير السلف للمعتزلة
زعم الخليفة المأمون فى رسالته أن أهل السنة والجماعة يكفرون المعتزلة ، وهذا زعم باطل ، فهم لا يكفرون إلا من كذب منهم بآيات الكتاب صراحة ، أو قامت عليه البينة فى أن قوله تكذيب لكلام الله ، وأصر على ما هو فيه ، ولذلك لما حمل الإمام أحمد من دار الخلافة بعد أن جلدوه ، وحضرت صلاة الظهر صلى معهم ولم يكفرهم فيما اعتقدوه ؛ لأنه يعلم أنهم أهل جهالة بالله .
إحداث البدعة يفتح الباب لتوالى الابتداع
أمر المأمون واليه بامتحان العلماء فى تلك البدعة ، فقال متهما إياهم فى صدقهم وشهادتهم:
" وهم أحق من يتهم في صدقه وتطرح شهادته، ولا يوثق بقوله ولا عمله، فإنه لا عمل إلا بعد يقين، ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام وإخلاص التوحيد ( يقصد توحيد المعتزلة ) .
ومن عمي عن رشده وحظه من الإيمان بالله وبتوحيده ، كان عما سوى ذلك من عمله ، والقصد في شهادته ، أعمى وأضل سبيلاً .
فاجمع من بحضرتك من القضاة ، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون، وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق الله القرآن وإحداثه .
وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ، ولا واثق فيما قلده الله واستحفظه من أمور رعيته ، بمن لا يوثق بدينه ، وخلوص توحيده ويقينه .
فإذا أقروا بذلك ، ووافقوا أمير المؤمنين فيه ، وكانوا على سبيل الهدى والنجاة ، فمرهم بأن يسألوا من يحضرهم عن علمهم في القرآن، وأن يتركوا إثبات شهادة من لم يقر بأنه مخلوق محدث والامتناع من توقيعها عندهم ".
ولما ولَّى الخليفة المأمون بشر بن الوليد الكندى أمور القضاء ، بعد أن أقر بمذهب المعتزلة فى خلق القرآن ، كان بشر إذا جاءه الشاهد سأله عن كلام الله وخلق القرآن ، هل الله يتكلم أم لا؟ فإن قال بأنه يتكلم ، رَدّ شهادته ، وإن قال: لا يتكلم ، قبل شهادته .
إن إحداث البدعة فى الدين يفتح بابا لتوالى مسلسل الابتداع وهدم النصوص ، فأى دليل يدل على أن الشاهد عند أداء الشهادة أمام القاضى ، لابد أن يمتحن فى خلق القرآن ؟ أليست تلك بدعة بنيت على بدعة كبرى لا عهد للمسلمين بها ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق