مقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد

الإيمان قول ، وعمل ..

يزيد بالطاعة ، وينقص بالمعصية ..

يزيد بالتفكر ، وينقص بالغفلة ..

يزيد بالتصديق والامتثال ، وينقص بالشك والإعراض ..

هيا نؤمن ساعة .. مدونة تزيدك إيمانا ..

بعلم نافع تتعلمه .. بعبرة تعتبر بها .. بسنة تمتثلها .. بآية تتدبرها .. بشبهة تمحوها ..

صفحاتها : روضة من رياض الجنة

تأنس فيها بذكر الله .. وترضى فيها بشرعه .. وتتدبر أمره ونهيه ..

اغتنم خيرها بالعمل بما فيها ، والدعوة إليه .

كان من دعاء ابن مسعود رضى الله عنه :

" اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها " .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .


الأحد، 29 مايو 2011

المطلب التاسع عشر : مناظرة الإمام أحمد


[المطلب التاسع عشر]
مناظرة الإمام أحمد لأهل البدعة

·      مناظرة علماء السنة للمبتدعة فى خلق القرآن .

·        التلبيس والخلط بين القدر المشترك والقدر الفارق .

·        ثبات الإمام أحمد على إثبات توحيد الصفات .

·        استعانة أهل السنة بربهم فى محاربة البدعة .

·        مناظرة الإمام أحمد لأهل البدعة بين يدى المعتصم .

·        النصوص التى استدل بها المعطلة على خلق القرآن .

·        انقطاع حجة المعتزلة ويأس الخليفة المعتصم .

·        المعتصم يأمر بجلد الإمام أحمد لإثباته صفات الله .

·        ندم أهل العلم الذين قالوا بخلق القرآن تقية .

·        المعتصم يندم على تعذيب الإمام أحمد ويفتح عمورية .

·        قصة أحمد بن نصر الخزاعى فى إثبات الصفات .

·        نصرة السنة وانتقام الله من دعاة البدعة .

·        الفرق بين اعتقاد الأشعرى وعقيدة الأشعرية .


مناظرة الإمام أحمد لأهل البدعة
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
    فى هذا المطلب نتناول بإذن الله الحديث عن البدعة الكبرى ، وكيف كان علماء السلف يناظرون المبتدعة مهما علت سطوتهم ، وذلك من خلال المحاور التالية :   

مناظرة علماء السنة للمبتدعة فى خلق القرآن

    كتب المأمون بن هارون لنائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم ، يأمره أن يجمع من بحضرته من الفقهاء ، والمحدثين ، والقضاة ، وأهل العلم ، وأن يقرأ كتاب المأمون عليهم مرارا ، حتى يدركوا مراد الخليفة منهم ، ويبدأ فى امتحانهم ، والكشف عن اعتقادهم ، وكان من أبرزهم أحمد بن حنبل ، وبشر بن الوليد الكندى ، ومحمد بن نوح ، وعلى بن أبى مقاتل ، وغيرهم .

    فلما جمعهم  قرأ عليهم الكتاب مرتين ، ثم سأل بشر بن الوليد عن القرآن ، فقال : القرآن كلام الله . قال إسحاق بن إبراهيم : أمخلوق هو ؟ قال بشر : " اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ " ( الرعد:16) قال إسحاق : أليس القرآن شئ ؟ قال بشر: هو شئ . قال إسحاق : فمخلوق هو ؟ قال : ليس بخالق. قال إسحاق : ليس أسألك عن هذا . قال : بشر : لا أحسن غير ما قلت . 

    أراد بشر أن يحيد عن الجواب الذى يريدونه ليتخلص من بطش الخليفة ، فهو يبطن اعتقاد السلف ، فأخذ إسحاق رقعة مكتوب فيها إقرار ، سيوقع عليه كل من لا يقر بخلق القرآن ، فقرأها على بشر ، وكان فيها : " أشهد أن الله واحد أحد فرد صمد لم يكن قبله شئ ولا بعده شئ ، ولا يشبهه شئ من خلقه فى معنى من المعانى ولا وجه من الوجوه " وقال له : أتـشهد على ما فى هذه الرقعة ؟ قال بشر : نعم . فقال إسحاق لكاتبه : اكتب ما قال .

    ثم توجه الوالى إلى على بن مقاتل ، وأبى حسان الزيادى وسألهما عن القرآن ، فقالا القرآن كلام الله ، والله خالق كل شئ ، فأشهدهما على ما فى الرقعة فشهدا ، وكتب جوابهما .

    ثم جاء دور الإمام أحمد ، وهو صريح فى دلالته ومقولته ، لا يلمح ولا يلوح ، ظاهره ينبئ عن باطنه ، لا يستخدم الحيدة ولا التأويل ، فقال له إبراهيم : ما تقول قى القرآن ؟ قال أحمد : هو كلام الله  . قال إسحاق : أمخلوق هو ؟ قال : هو كلام الله ولا أزيد على ذلك . 

قال إسحاق : أتوافق على الرقعة التى فيها : " أشهد أن الله واحد أحد فرد صمد لم يكن قبله شئ ولا بعده شئ، ولا يشبهه شئ من خلقه فى معنى من المعانى ولا وجه من الوجوه "

قال الإمام أحمد : أقول: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" ( الشورى :11) ورفض ما فى الرقعة لاشتمالها على حق وباطل. 

قال أحد الحاضرين من المعتزلة لإسحاق : ياأمير، إنه يقول سميع بأذن بصير بعين . قال إسحاق لأحمد : ماذا أردت بقولك وهو السميع البصير ؟ قال أحمد مفحما لهم : أردت منها ما أراده الله ورسوله .

التلبيس والخلط بين القدر المشترك والقدر الفارق

    العبارة التى أشهد الوالى عليها العلماء ؛ عبارة مرنة ، ظاهرها حق ، وفى داخلها إقرار ضمنى بمذهب المعتزلة لأن معنى : "ولا يشبهه شئ من خلقه فى معنى من المعانى ولا وجه من الوجوه " يلزم منها عندهم نفى الصفات عن الله مطلقا ؛ كالسمع والبصر والكلام .

    وقد التزم الإمام أحمد بمنهج أهل السنة ؛ فأمسك عن هذه العبارة ، وأثبت القدر الفارق ولم يمثل ، وأثبت القدر المشترك ولم يعطل .

    ثم اختبر الوالى سائر العلماء ، وكتب إلى الخليفة بما كان منهم ، فمكث القوم تسعة أيام ، ثم دعا بهم ، وقد ورد الكتاب الثانى للمأمون ، يأمره بإخلاء سبيل من أقر بخلق القرآن ، فجاء فيه: 
" فإن قال إن القرآن مخلوق ، فأشهر أمره واكشفه ، وإلا فاضرب عنقه ، وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه إن شاء الله
وسمى الخليفة فى خطابه رجلا رجلا ، ثم أمر بأن يُوثَّق الباقون ممن لم يذكر أسماءهم فقال : 
" فاحملهم أجمعين موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين ... لينصحهم أمير المؤمنين ، فإن لم يرجعوا ويتوبوا ، حملهم جميعا على السيف إن شاء الله ، ولا قوة إلا بالله " .

   عند ذلك أدرك العلماء أن الأمر شديد ، وأن الخليفة فوض نائبه فى بغداد بقطع الرقاب ، فأجابوا إلى القول بخلق القرآن مكرهين متأولين قوله تعالى : "إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ " (النحل : 106) ولم يمتنع إلا أربعة نفر ، فأمر باعتقالهم وشدهم فى الحديد ، ثم أعاد امتحانهم فى اليوم الثانى ، فأجاب اثنان ، وأصر الإمام أحمد بن حنبل ، ومحمد بن نوح على قولهما فى نفى خلق القرآن ، فزاد إسحاق من قيودهما ، ووضعهما فى السجن تمهيدا  لترحيلهما إلى المأمون .

ثبات الإمام أحمد على إثبات توحيد الصفات

    كان إسحاق قد كتب للخليفة كلاما خاصا عن الإمام أحمد ، يلفت نظره إلى مكانته فى قلوب الأمة ، ثم أخرج أحمد ومحمد بن نوح من سجن بغداد ، وجمعهما فى سلسة واحدة على بعير واحد متعادلين ، فى صورة مزرية، متوجهين إلى الخليفة المأمون ، وكان بطرسوس بالشام فى طريقه لغزو الروم . 

وفى الطريق قيل لأحمد : ألا ترى الباطل كيف ظهر على الحق ؟ قال : 
" كلا إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل قلوب الرجال من الهدى إلى الضلال ، وقلوبنا بعد لازمة للحق". 

وفى الطريق جاءه أعرابى عابد وقال له : " ياهذا ، إنك وافد الناس اليوم ، فلا تكن شؤما عليهم ، وإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه ، فيجيبوا ، فتحمل أوزار الناس إلى يوم القيامة ، وإن كنت تحب الله فاصبر ، فإن ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل ، وإنك إن لم تقتل تمت ، وإن عشت عشت حميدا " . 
قال أحمد : " كان كلامه مما قوى عزمى على ما أنا فيه من رد الذى يدعوننى إليه " .

وانطلق السفيران عن مذهب أهل السنة والجماعة يجران قيودهما ، ولما اقتربا من معسكر الخليفة قال له محمد بن نوح : " ياأحمد إنى موصيك بوصية ؛ إن دعانا هذا الرجل أن نقول القرآن مخلوق فلا تقل ، وإن أنا قلت فلا تركن إلىّ ، وتأول قوله تعالى : " وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ " ( هود :113) .

    ثم جاءه سيّاف المأمون يبكى ويقول : " يعز علىّ ياأبا عبد الله ، إن المأمون قد سَلّ سيفا لم يسلله من قبل ، وأقسم بقرابته من رسول الله r، لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف "  فرفع أحمد بصره إلى السماء ، وجثا على ركبتيه ، ودعا ربه قائلا : " سيدى ومولاى ، غر حلمك هذا الفاجر، حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل ، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته ". 

فما إن انتهى من دعائه حتى طار الخبر فى كل مكان، فى الثلث الأخير من الليل ، مات المأمون ، ودخل رجل يبشرهم قائلا : البشرى قد هلك الرجل . 

استعانة أهل السنة بربهم فى محاربة البدعة

    مات المأمون غير مأسوف عليه ، وقد تأكد للعامة قبل الخاصة صدق ما عليه إمام أهل السنة ، وقويت مكانته فى القلوب ، وتعلقت به النفوس . وأمر المعتصم برد السجينين إلى بغداد، حتى تهدأ الأمور فى الدولة ، وفى الطريق مات محمد بن نوح وصلى عليه الإمام أحمد ودفنه ، وكان بقول عنه : 
" ما رأيت أحدا على حداثة سنة وقلة علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح ".

وبقى الإمام أحمد وحيدا فى بغداد ، والقيود فى يديه ورجليه طيلة ثمانية وعشرين شهرا ، يؤم السجناء فى سجن بغداد ، ويعلمهم كتاب الله وسنة  رسوله صلى الله عليه وسلم .

    قال له عمه إسحاق بن حنبل : يابنى لم لا تجيبهم إلى القول بخلق القرآن تقية ؟ 
فقال أحمد: " إذا سكت العالم تقية ، والجاهل يجهل ، فمتى يظهر الحق ؟ إنى لا أبالى بالحبس ، فما هو ومنزلى إلا واحد ، ولا قتلا بالسيف ، إنما أخاف فتنة السوط ، وأخاف أن لا اصبر فأوافقهم ". 
قال أحد السجناء : " لا عليك ياأبا عبد الله ، فما هما إلا سوطان ، ثم لا تدرى أين يقع الباقى ؟ "

    وبعد أن تلاحقت عليه ثلاث سنوات ، وهو فى أغلاله حولوه من السجن إلى دار إسحاق بن إبراهيم ؛ ليتداولوه على انفراد قبل أن يدخلوه على الخليفة ، فناظروه وغلبهم فى الحجة ، فقالوا : ياأحمد إنها والله نفسك؛ إنه لا يقتلك بالسيف ، إنه قد آثر إن لم تجبه يضربك ، أو يلقيك فى مكان لا ترى فيه الشمس ، فلم يعبأ بهم وقال : " يأتونى بآية من كتاب الله وأنا أجيبهم " .

مناظرة الإمام أحمد لأهل البدعة بين يدى المعتصم

    لما أدخلوا الإمام أحمد على الخليفة المعتصم ، أجلسه المعتصم بجواره وقد أثقلته القيود 
قال أحمد : تأذن لى فى الكلام يا أمير المؤمنين ؟ 
قال : تكلم . فقلت إلى ما دعا ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ 
قال المعتصم : إلى شهادة أن لا إله إلا الله . 
فقلت له : فأنا أشهد أن لا إله إلا الله . 
قال المعتصم : لولا أنى وجدتك فى يد أخى المأمون ما تعرضت لك . 
ثم قال لعبد الرحمن بن إسحاق : ناظره يا عبد الرحمن . 
فقال : ما تقول فى القرآن ؟ 
قال أحمد : " ما تقول فى علم الله ؟
فسكت عبد الرحمن ، قال أحمد : "القرآن من علم الله ، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله ." فقالت حاشية الخليفة : ياأمير المؤمنين كفرك وكفرنا . قال عبد الرحمن : كان الله ولا قرآن . 
قال أحمد : " كان الله ولا علم " ، فسكت عبد الرحمن .
    رد الإمام أحمد صفة الكلام باعتبارها من صفات الأفعال ، إلى صفة العلم باعتبارها صفة من صفات الذات ، وهذا يدل على سعة علمه وفهمه رحمه الله .
   
النصوص التى استدل بها المعطلة على خلق القرآن

    قال بعض الحاضرين للإمام أحمد : أليس الله قد قال : " اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ " ( الرعد:16) القرآن أليس هو شئ ؟ 
قال أحمد : " قال الله : " تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا " ( الأحقاف : 25) فهل دمرت إلا ما أراد الله ؟ قد أتت تلك الريح على أشياء لم تدمرها ، كمنازلهم ، ومساكنهم ، والجبال التى بحضرتهم ، فأتت عليها تلك الريح ولم تدمرها ، وبالرغم من ذلك قال : " تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ " .
    وقد ذكر الله كلامه فى غير موضع من القرآن ، فسماه كلاما ، ولم يسمه خلقا  ، قال تعالى :
" وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ " (التوبة : 6) .

    قال بعض الحاضرين : أليس قد قال الله : " يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ " ( الأنبياء :2) أيكون محدثا إلا مخلوقا ؟ 

قال أحمد رحمه الله : " قال تعالى : " ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ" (ص:1) والذكر هو القرآن ، وتلك ليس فيها ألف ولا لام ، فالمراد هو ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم يجرى عليه الحدث ، أما ذكر الله إذا ورد لا يجرى عليه الحدث ، قال تعالى : "وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ" ( العنكبوت : 45) فعلم النبى صلى الله عليه وسلم وكلامه محدث مخلوق.
.

    والشيئان بقياس الأولى إذا اجتمعا فى اسم يجمعهما ، فكان أحدهما أعلى من الآخر ، ثم جرى عليهما اسم مدح ، كان أعلاهما أولى بالمدح ، وإن جرى عليهما اسم ذم ، فأدناهما أولى به وفى الآية جمع بين ذكرين : ذكر الله وذكر نبيه صلى الله عليه وسلم فأما ذكر الله إذا انفرد ، لم يجر عليه الحدث. 

    فذكر بعض الحاضرين حديث عمران بن حصين محرفا له ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله خلق الذكر . قال أحمد : " هذا خطأ ، حدثنا غير واحد : إن الله كتب الذكر " .

انقطاع حجة المعتزلة ويأس الخليفة المعتصم 

    وركب الخليفة من الهم ما ركبه ، فقاموا وفضوا المجلس ، وردوا الإمام أحمد إلى السجن ، وكان ذلك فى رمضان ، فذهب إليه رجلان من أصحاب أحمد بن أبى دؤاد يناظرانه ، ويلزمانه القول بخلق القرآن ، حتى إذا كان وقت الإفطار جئ بالطعام ، فلم يستطع الإمام أن يفطر من شدة الإرهاق . 

    وفى اليوم التالى أعيد أحمد إلى مجلس الخليفة ، وأعادوا المناظرة ، فإذا جاءوا بكلام ليس فى كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال : ما أدرى ما هذا . قال قائل منهم : ياأمير المؤمنين إذا توجهت له الحجة علينا ثبت ، وإن ألزمناه بشئ يقول : ما أدرى ماهذا ؟

    قال الإمام أحمد : " لقد احتجوا علىّ بشئ لا يقوى قلبى ، ولاينطق لسانى أن أحكيه ، أنكروا الآثار ! وما ظننتهم على هذا حتى سمعته منهم ، فاحتججت عليهم بقوله تعالى : " إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا " (مريم :42) فقالوا: شبّه ياأمير المؤمنين "  فهم يعتقدون أن إثبات الصفات تشبيه وتمثيل .
    ولم يزالوا به من الصباح حتى الظهر ، وهو صامد بقوة الله وتوفيقه ، حتى غضب المعتصم وقام من المجلس ، فردوه إلى سجنه وقيوده مرة أخرى .

المعتصم يأمر بجلد الإمام أحمد لإثباته صفات الله 

    وفى الصباح أدخل الإمام أحمد على الخليفة ، ثم قال للحاضرين : ناظروه ، فناظروه وحجة الإمام تدحض شبهاتهم ، حتى ضاق به المعتصم ، فوسوس إليه الخبيث بن أبى دؤاد قائلا : إن تركته سيقول الناس : إنك تركت مذهب المأمون ، وأنه غلب على خليفتين .

     فنادى الخليفة :أحضروا العقابين والسياط ، والعقابان هما خشبتان منصوبتان ، يعلق فيهما المجلود من يديه ، فأتَوا بالإمام أحمد ، وأوقفوه على كرسى ، وهمس إليه أحدهم ، وأمره أن يأخذ بيديه بأى الخشبتين ، ذلك أن المجلود إذا علق بالحبل تخلعت يداه ، فأشفق عليه الجلاد ، وأراده أن يمسك بيديه فى الخشبتين ، فلم يفهم الإمام ما قال ، وعلق بالخشبتين ، وصار بينه وبين الأرض مقدار قبضة . 

    قال المعتصم : اضربوه ، فلما ضرب سوطا : قال الإمام : بسم الله والحمد لله ، فلما ضرب الثانى قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فلما ضرب الثالث قال : القرآن كلام الله غير مخلوق، فلما ضرب الرابع قال : قل يصيبنا إلا ما كتب الله لنا

    وقد اجتمع الناس وكبار المحدثين فى الوقت الذى يضرب فيه الإمام ، وهم فى ثورة وغضب ، قلوبهم معلقة بين الدعاء بالتثبيت للإمام ، أو دعاء على الظالمين ، وقد ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام إلى باب المعتصم يحجبه الحرس ، وهو يرفع صوته بين الناس ويقول: أيضرب سيدنا ومولانا ؟ أيضرب سيدنا ومولانا ؟ 

    ولم يزل الإمام قائما بين العقابين والسياط تقطع جسده ، قام المعتصم وقال له : ياأحمد أجبنى إلى القول بخلق القرآن ، وأنا أطلق عنك بيدى ، فقال : آتونى شيئا من كتاب الله وأنا أجيبكم ، فأعادوا الضرب ، كل جلاد يضرب سوطين وينصرف ، حتى ذهب وعيه ، وضرب ثمانين سوطا ضربا مبرحا شديدا ، حتى سال دمه ، وتقطع لحمه ، فأتوه بشراب ليفطر وكان صائما فأبى .

ندم أهل العلم الذين قالوا بخلق القرآن تقية

    وكان الفقهاء الكبار قد أجابوا إلى القول بخلق القرآن تقية بين يدى المأمون ، ومنهم أعلام المحدثين كيحيى بن معين ، وزهير بن حرب ، وأبو نصر التمار ، وهؤلاء كانوا فى مرتبة عليا عند الإمام ، ولم يكن يتوقع منهم سرعة الإجابة إلى القول بخلق القرآن ، فكان يقول :
لو كانوا صبروا وقاموا لله عز وجل ، لانقطع الأمر وخافهم الرجل ، ولكن لما أجابوا وهم عين البلد ، اجترأ على غيرهم . 

    فندم كثير منهم على عدم الثبات على الحق ، وحلف أحمد ألا يكلم أحدا ممن أجاب منهم حتى يلقى الله ، فجاء يحيى بن معين ، فدخل على أحمد وهو مريض ، فسلم فلم يرد عليه السلام، فما زال يعتذر ويقول حديث عمار ، وقول الله تعالى : "إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ"  (النحل :106) فقلب أحمد وجهه إلى الجانب الآخر ، فخرج يحيى وجلس على باب الإمام ، وقال لمن خرج بعده : إيش قال أحمد بعدى ؟ قال : يقول : " يحتج بحديث عمار ، وحديث عمار قال فيه : مررت بالمشركين وهم يسبونك ، فنهيتهم فضربونى ، وأنتم قيل لكم نريد أن نضربكم فاستجبتم !"

   يقصد الإمام أنه لا وجه للشبه بين حديث عمار وبين ما فعلوه ؛ لأن المشركين عذبوا عمارا وغطسوه فى بئر ميمون ، حتى كاد يموت وقالوا : اكفر بمحمد ، فتابعهم على ذلك دون أن يشعر وقلبه كاره ، وهم قد استجابوا بمجرد التهديد . 
    فقال يحيى : مررها يا أحمد غفر الله لك ، فما رأيت والله تحت أديم السماء أفقه فى دين الله منك . يقصد : مرر هذه السقطة التى وقعنا فيها ، وسامحنا عليها .

المعتصم يندم على تعذيب أحمد ويفتح عمورية 

    ندم المعتصم على جلده للإمام أحمد ، وأرسل إليه من يتابع خبر معافاته من آثار ما فعل به، حتى صح الإمام أحمد وبرئ ، وبقيت إبهاماه منخلعتين ، يضربان عليه فى البرد ، فيسخن له الماء .

    وقد جعل الإمام أحمد المعتصم وكل من آذاه فى حل من ذنبه إلا أهل البدعة من المعتزلة ، وكان يقول : ما ينفعك أن يعذب المسلم بسببك ، ويتلو قوله تعالى : " وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ " (النور :22) وكانت الصلة بين الإمام والخليفة طيبة إلى وقت وفاته ، وكان من بركة عفو الإمام أن فتح الخليفة عمورية أعظم بلاد الروم .

قصة أحمد بن نصر الخزاعى فى إثبات الصفات 

    توفى المعتصم ، وولى الخلافة من بعده ابنه الواثق ، وكان عنيدا مصرا على مذهب المعتزلة الخبيث ، وانتشرت الفواحش والمعاصى بين حاشيته ، فاجتمع ألوف من أهل بغداد على عالم من علماء السلف هو : أحمد بن نصر الخزاعى ، تعاهدوا فيما بينهم أن يعيدوا الأمة إلى مذهب السنة ، فبايعوا أحمد بن نصر على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وتواعدوا فى ليلة للاجتماع والخروج على الواثق ، فوشى بهم بعض المنافقين ، فقبضوا على أحمد بن نصر وأتباعه ، وأحضر بين يدى الواثق .
فقال له : ما تقول فى القرآن ؟ 
فقال : هو كلام الله . 
فقال : أمخلوق هو ؟ 
قال : هو كلام الله . 
فقال الواثق : فما تقول فى ربك ؟ أتراه يوم القيامة ؟ 
قال : ياأمير المؤمنين قال تعالى : " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر " .
قال الواثق : ويحك أيُرى كما يرى الجسم المحدود ، ويحويه مكان ، ويحصره الناظر؟ 
ثم قال لمن حوله : ما تقولون فى هذا الرجل ؟ 
قال أحدهم : هو حلال الدم .
وقال آخر : اسقنى دمه ياأمير المؤمنين . 
فقال الواثق : إذا رأيتمونى قمت إليه فلا يقومن أحد معى ، فإنى أحتسب خطاى إلى هذا الكافر الذى يعبد ربا لا نعبده ، ولا نعرفه بالصفة التى وصفه بها .

     ثم نهض إليه بالسيف وضربه ، ثم قام أحد الحاضرين فضرب عنقه وحز رأسه ، وصلب الجسد ، وحمل الرأس إلى بغداد فنصب فيها من سنة 231ه إلى أن تولى المتوكل الخلافة بعد أخيه الواثق سنة 237ه ، فجمع أهله بين رأسه وجثته ، ودفن بأمر المتوكل . وكان يحيى بن معين يترحم عليه ويقول : " قد ختم الله له بالشهادة ".

نصرة السنة وإكرام الإمام أحمد حتى وفاته

    استبشر الناس بولاية المتوكل خيرا ، فإنه  كان محبا للسنة وأهلها ، ورفع المحنة عن الناس، وكتب إلى الآفاق ألا يتكلم أحدا فى القول بخلق القرآن ، ثم كتب إلى نائبه ببغداد أن يبعث بأحمد إليه ، فاستدعاه وأكرمه لما يعلم من إعظام الخليفة له ، وإجلاله إياه ، ولما علم أهل البدعة ظهور المودة بين الخليفة والإمام أحمد ، حاولوا الوشاية به ، فزعموا أن رجلا من العلويين نصبه أحمد بن حنبل خليفة ، وقد آواه إلى منزله ، وهو يبايع الناس له فى الباطن ، فأمر الخليفة أن يحاصر العسكر منزل الإمام ، وفتشوه ، فلم يروا شيئا ، فعلم المتوكل براءته مما نسب إليه ، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم ، فامتنع الإمام من قبولها ، فقال رسول الخليفة : إنى أخشى من ردك إياها أن تقع وحشة بينك وبين الخليفة ، فوضعها عنده ، ففرقها أحمد فى الفقراء من أهل الحديث ولم يبق منها درهما ، ولم يعط لأهله شيئا ، وهم فى غاية الفقر والجهد .

    وكتب رجل من المعتزلة إلى المتوكل يقول : إن أحمد يشتم آباءك ويرميهم بالزندقة ، فكتب إليه المتوكل : أما المأمون فإنه خلط الحق بالباطل ، فسلط الناس على نفسه ، وأما أبى المعتصم فكان رجل حرب ولم يكن له بصر بالكلام ، وأما أخى الواثق فإنه استحق ما قيل فيه ، ثم أمر بضرب الرجل الذى رفع إليه الرقعة مائتى سوط .
    واشتد المرض على الإمام أحمد تسعة أيام ، فكان الناس يدخلون عليه أفواجا ، يسلمون ويرد بيده ، واجتمع الناس من الأكابر والعامة بالآلاف حول بيته لعيادته .

    مات الإمام أحمد ، وعلت الأصوات بالبكاء ، وخرج الناس بنعشه ، والخلائق من حوله لا يعلم عددهم إلا الله ، وكان يقول : قولوا لأهل البدع : بيننا وبينكم يوم الجنائز. 

    يعنى : أن أهل العلم يحمدون عند موتهم بذكر تمسكهم بالسنة . 

   قال أحمد بن الوراق : ما بلغنا أن جمعا فى الجاهلية ولا فى الإسلام ، اجتمعوا فى جنازة أكثر من الجمع الذى اجتمع على جنازة أحمد بن حنبل .

نصرة السنة وانتقام الله من دعاة البدعة 

    لقد جعل الله فى قصة الإمام أحمد ومن ناصره على التمسك بالسنة ، آية على عدل الله فى الظالمين الذين قتلوا من خالفهم من المسلمين . 

    قال المتوكل لوزير الواثق محمد بن عبد الملك بن الزيات : فى قلبى شئ من قتل أحمد بن نصر ، فقال : ياأمير المؤمنين ، أحرقنى الله بالنار، إن أمير المؤمنين الواثق قتله كافرا مرتدا . 

    ودخل عليه هرثمة ، وكان قد حضر التمثيل بجثة أحمد بن نصر ، فقال له المتوكل : فى قلبى شئ من قتل أحمد بن نصر ، فقال : ياأمير المؤمنين قطعنى الله إربا إربا ، لقد قتله الواثق  كافرا مرتدا .

    ودخل عليه الخبيث أحمد بن أبى دؤاد ، فقال له المتوكل : فى قلبى شئ من قتل أحمد بن نصر ، فقال : ياأمير المؤمنين ضربنى الله بالفالج –الشلل – إن أمير المؤمنين الواثق قتله كافرا مرتدا .

    وقد تم عدل الله فيهم وهم أحياء ، فقد أمر المتوكل بالقبض على ابن الزيات ، وصادر أمواله ومحاصيله وضياعه ، وأمر جنده أن يعذبوه كما عذب العلماء ، وأحرقوه فى تنور ، ثم سلموا جثته إلى أولاده فدفنوه ، ونبشت الكلاب جثته ، وأكلت كما بقى من لحمه وجلده .

    ثم أمر بأحمد بن أبى دؤاد ، فأشهد عليه نفسه ببيع ضياعه وأملاكه ، ورد أمواله إلى بيت المال ، فاغتم وأصابه الشلل أربعة أعوام ، لا يجد من يقوم على خدمته ، أو مساعدته فى قضاء حاجته ، جزاء وفاقا لما فعل بالإمام أحمد ، حين قيده فى الأغلال ؛ ليعجز عن قضاء حاجته وتطهير نفسه ، وصار عبرة للناس ببدعته ، يقولون انتقام الله لأحمد بن حنبل ،وأحمد بن نصر .

    وأما هرثمة المعتزلى فقد فر هاربا متخفيا ، فمر دون أن يدرى بقبيلة خزاعة وهى قبيلة احمد بن نصر الخزاعى ، ففتكوا به ، وقطعوه إربا إربا ، ومزقوا أوصاله .

الفرق بين اعتقاد الأشعرى وعقيدة الأشعرية

    رفعت المحنة فى عهد المتوكل سنة 232ه ، وانتصر لأهل السنة ، وأكرم إمامهم ، الإمام أحمد بن حنبل، غير أن أمور العقيدة لم تعد على نقائها فيما سلف ، بل تشبعت بالفلسفات العقلية فى المسائل الغيبية ، وفى خضم تلك المعمعة الفكرية ولد أبو الحسن الأشعرى الذى تنسب إليه فرقة الأشعرية ، نشأ بالبصرة يتيما ، فتزوجت أمه رجلا من المعتزلة يقال له أبو على الجبائى ، فتربى فى حجره ، وتعلم من فنه فى نفى صفات الله ، فأقام على المذهب الاعتزالى أربعين سنة ، وأخذ يجمع أقوال الضالين ، وينظر فيها ، ويدققها ، حتى ألف فى ذلك كتابا كبيرا سماه ( مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ) وبين فيه أن الأدلة العقلية تكافأت عنده فى الاعتقادات الغيبية ، ولم يترجح لديه شئ من الآراء الاعتزالية . 

    وقد ذكر الأشعرى أنه رأى النبى صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فى المنام فى ليالى شهر رمضان ، فقال له : يا على ، انصر المذاهب المروية عنى ، فإنها الحق . 

   فعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم يقصد نصرته فى باب العقيدة ، فأجمع على عدم الخوض فى الآراء الكلامية ، وأن يكثر من تلاوة الآيات القرآنية ، وأن يلم بالأحاديث النبوية فى أمور العقيدة ، وأخذ فى نصرة الآيات والأحاديث التى وردت فى إثبات الاستواء ، وعلو الله على خلقه ، ورؤية المؤمن لربه ، والشفاعة بعد الموت ، وإثبات الصفات.

    خرج الأشعرى إلى المسجد الجامع واعتلى المنبر ، وقال : معاشر الناس ، إنى قد استهديت الله تعالى فهدانى إلى اعتقاد ما أودعته فى كتابى هذا ( الإبانة عن أصول الديانة ) وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده ، كما انخلعت من ثوبى هذا ، وخلع ثوبا كان عليه ورمى به .

    فمنهج أبى الحسن الأشعرى منهج سلفى ، وقد سعى بكل حجة نصية أو عقلية ؛ لإثبات ماأثبته الله لنفسه ، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف أو تعطيل أو تكييف أو تمثيل . 

    وأما المذهب الأشعرى الذى ظهر بعد عصر المعتزلة ، فهو محاولة للتوفيق بين طريقة السلف فى تصديق الخبر الذى ورد به النص ، والمنهج الاعتزالى العقلى الذى يقبل من النصوص ما وافق العقل ، ويعطل ويؤول ما خالفه ؛ فأثبتوا لله تعالى خمس صفات سلبية ، وسبع معنوية ، وما عدا ذلك من النصوص الخبرية فهى موهمة للتشبيه والجسمية . 

    ومن أبرز أئمة الأشعرية : الباقلانى ، والاسفرايينى ، والقشيرى ، والشيرازى ، والجوينى ، والغزالى ، وأخطرهم - قبل توبته – الفخر الرازى ، واعتقاد الرازى هو المعبر عن المذهب الأشعرى فى مرحلته الأخيرة والسائد الآن فى البلاد الإسلامية ، والمقرر على طلبة المعاهد والجامعات الإسلامية .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق