[ المطلب الثالث والعشرون]
أسماء الله الحسنى بين الحصر ومعانى الإحصاء
· أسماء الله بين الحصر والإحصاء وشبهات المستشرقين .
· إحصاء الأسماء ليس أحجية أو مسألة رياضية .
· تفنيد الشبهات حول حصر الأسماء ومعانى الإحصاء .
· تفسير معانى الإحصاء واستحالة حصر الأسماء الكلية .
· ظهور الأسماء الحسنى مرتبط بمقتضى الحكمة .
· دنيا الابتلاء لابد من معرفة ما يناسبنا فيها من الأسماء .
· رأى ابن القيم فى مقتضى الأسماء الحسنى .
· هل قضية الإحصاء متروكة للعقل أم لحكم النص .
أسماء الله الحسنى بين الحصر ومعانى الإحصاء
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
فى هذا المطلب بإذن الله نتناول الحديث عن أسماء الله الحسنى بين الحصر ومعانى الإحصاء ، من خلال المحاور التالية :
أسماء الله بين الحصر والإحصاء وشبهات المستشرقين
زعم أحد قساوسة النصارى فى بحثه لأسماء الله الحسنى عند المسلمين ، وجود تعارض بين الدعوة إلى حفظ وإحصاء تسعة وتسعين اسما ، وعدم حصر الأسماء ؛ فلا توجد قائمة واحدة صحيحة ومعتمدة عند جميع المسلمين ، فإن كان لله تسعة وتسعون اسما بالضبط كما يؤكد نبى الإسلام ، فإن ما يحفظه أى مسلم، ينبغى أن أن يكون بالضبط مثل ما يحفظه أخوه المسلم بدون زيادة أو نقصان ، والواقع أنه توجد ستة قوائم لأسماء الله الحسنى فى الإسلام ، لا تنطبق قائمة منهم مع الأخرى ، ثم يتساءل مشككا : إن كانت عملية إحصاء الأسماء الحسنى هى من العمليات الرئيسية لدخول الجنة ، فكيف تركها الله والنبى صلى الله عليه وسلملاجتهاد العباد ؟
ويستطرد قائلا :
طالما أنه لا توجد قائمة واضحة بأسماء الله الحسنى فى القرآن ، فإن علماء المسلمين يتبعون المنهج الاستقرائى فى البحث عن هذه الأسماء فى القرآن والسنة ، وتواجه الباحثين أسئلة صعبة ، منها :
هل تعتبر الأسماء التوقيفية من الأسماء الحسنى ؟
وبالتالى هل يمكن إطلاق اسم على الله لم يرد فى القرآن والسنة مثل أسماء الشارع ، أو المشرع ، و المنزِّل ، والموحى ، والمرسل ؟
وهل يمكن اشتقاق أسماء الله من أفعاله المعروفة كأسماء المعز والمذل ؟
وهل يمكن إعطاء اسم لله بشكل مطلق مع أن هذا الاسم مضاف ، أو مضاف إليه ، أو مقيد فى القرآن ؟
مثل اسم (الفاضل) من ذى الفضل ، و(الرفيع) من رفيع الدرجات ، و(الجليل) من ذى الجلال ؟ و
هل يجوز اشتقاق أسماء أخرى لله من خلال معرفة إرادة الله فى القرآن وأعماله وأقواله وأوامره ووصاياه وتعاليمه وشرائعه ؟
مثل أسماء الفادى والعادل والمحب والمخلص والعجيب ؟
لا يقدم لنا العلماء المسلمون أية قاعدة للحكم إن كان أحد أسماء الله هو من الأسماء الحسنى أم لا ؟
إحصاء الأسماء فى الإسلام ليس أحجية أو مسألة رياضية
لم يبين النبى صلى الله عليه وسلم التسعة وتسعين اسما على وجه العد والتفصيل ؛ ليجتهد المسلمون فى البحث والتحصيل ، وفى ذلك حكمة بالغة :
فالشئ النفيس لابد أن يتنافس فى طلبه المتنافسون ، وهو من باب المسارعة فى الخيرات ، ورفعة الدرجات ، وتفاوت المنازل فى الجنات .
فالدعوة إلى إحصاء الأسماء ما هى إلا للحث على ملازمة القراءة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والإكثار من ذكر الله تعالى .
ومن المعلوم أنه يلزم لحفظ أسماء الله الحسنى :
إحصاؤها واستيفاؤها أولا ، وهذا يتطلب اجتهادا وبحثا طويلا ينال صاحبه من الفضل أجرا كبيرا .
ثم الإحاطة بمعانيها ، والإيمان بها ، والعمل بمقتضاها ، وهذا يتطلب مجاهدة وجهادا كبيرا .
ثم دعاء الله بها وحسن المراعاة لأحكامها ، وهذا يتطلب علما وفقها وبصيرة .
وليست قضية إحصاء أسماء الله الحسنى لغز أو مسألة رياضية ، من فشل فى التوصل إلي حلها سينال العذاب فى النار الأبدية ، أو لن يدخل الجنة كما يصورها هذا النصرانى ، بل الأمر مرهون بمنهج توقيفى ، فلا نسمى الله إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
وليس الحال عندنا كما هو عند غيرنا ، لا يجرؤ أحدهم أن يسأل أسقفا أو قسيسا عن أسماء الله فى الكتاب المقدس ، فضلا عن الدليل النصى لكل اسم منها .
إن السؤال الذى يراود كل عاقل ، ويوجه أولا إلى هذا القسيس الذى شغل نفسه بأسماء الله فى الإسلام وهو كافر به : لماذا أحجم أساقفة النصارى عن دراسة أسماء الله فى الكتاب المقدس ؟ ت
لك الأسماء التى استخرجناها لهم إحصاء لها لأول مرة فى تاريخهم فى كتابنا ( أسماء الله الحسنى الثابتة فى كتاب النصارى المقدس ) ، على الرغم من اعتقادنا فى تحريف كتابهم وها قد ظهرت تسعة وتسعون اسما ، تتفق فى معظمها نصا مع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لعلهم يعلمون من هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذى أخبرنا أن لله تسعة وتسعين اسما ، وليقارنوا بين ما ورد فى الإسلام وما ورد فى كتابهم ، ثم يحكمون بأنفسهم بصورة مستقلة دون وصاية قسيسيهم ، وليجيبوا على هذا التساؤل :
هل الأسماء الحسنى تدل على المسمى أبا أو المسمى ابنا ؟
هذا ولم يرد فى الكتاب المقدس أن الابن قد وصف بصفات الإله الرب التى نطق بها كتابهم .
بل ما ورد فى أوصاف الابن يدل على أنه كان مصلوبا مضروبا مهانا ، فإن كان الأب هو الإله الحق ، سيكون الابن مخلوقا حادثا ليس ربا ولا إلها .
إن أسماء الله الحسنى التى استخرجناها بأدلتها من نصوصها من الكتاب المقدس ، هى أسماء الله الرب الواحد العلى الأعلى المتعال ، التى بلغها عنه عيسى عليه السلام ، وسائر الأنبياء إلى كافة الناس ؛ ليوحدوا ربهم فيها ، ويعبدوه من خلالها .
تفسير معنى الإحصاء واستحالة حصر الأسماء الكلية
الإحصاء فى اللغة معناه : الحفظ والجمع والعد والإحاطة . قال تعالى : " وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا " (الجن :28) . وقد ورد حديثان صحيحان أحدهما فى الحصر والآخر فى الإحصاء ، الأول قول النبى صلى الله عليه وسلم:
"ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إنى عبدك وابن عبدك وابن أمتك ، ناصيتى بيدك ، ماضٍ فىّ حكمك ، عدل فىّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو أنزلته فى كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استاثرت به فى علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبى ، ونور صدرى ، وجلاء حزنى ، وذهاب همى ، إلا أذهب الله همه ، وحزنه وأبدله مكانه فرحا "
فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها ؟ فقال :
" بلى ينبغى لمن سمعها أن يتعلمها ".
( رواه أحمد وصححه الألبانى)
والثانى : الذى ورد فيه التأكيد على ذكر العدد تسعة وتسعين فى قول النبى صلى الله عليه وسلم:
" إن لله تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة " .
دل الحديث الأول على أن أسماء الله تعالى الكلية لا تحصى ولا تعد ، فهى من الأمور الغيبية التى استأثر الله بعلمها ، وأنها غير محصورة فى عدد معين .
وأما الحديث الثانى فدل على أن هذا العدد الذى تعرف الله به إلى عباده فى كتابه وسنة رسوله r من جملة أسماء الله ، ومن شأنه أن من أحصاه دخل الجنة .
تفنيد الشبهات حول حصر الأسماء ومعانى الإحصاء
لما استخلف الله عز وجل الإنسان فى أرضه على وجه الابتلاء والامتحان ، جعله على صورته فى إظهار آثار أسمائه وتحقيق عبوديته ، فتعرف الله إليه بجملة من أسمائه وصفاته، خصها النبى صلى الله عليه وسلم بالعدد المذكور ؛ ليتقلب فى آثارها كل إنسان والتى تعرف الله بها أيضا أو بما يماثلها من أوصافه إلى الأنبياء السابقين ، وكلها تتناسب مع أحوال العباد ودعائهم لله تعالى بها .
ظهور الأسماء الحسنى مرتبط بمقتضى الحكمة إلإلهية
والعلة فى التخصيص بتسعة وتسعين اسما - والله أعلم - أن كل مرحلة من مراحل الخلق يظهر فيها الحق سبحانه وتعالى من أسمائه وصفاته ، ما يناسب الغاية من وجود الخلق .
ففى مرحلة الدنيا وما فيها من شهوات وشبهات وابتلاءت وتكليفات ، تعرف الله تعالى إلى عباده بجملة من أسمائه وصفاته ، تناسب حاجة الإنسان وضرورياته .
فحكمة الله تظهر فى تعريف الخلائق ما يناسبهم من أسماء الله وصفاته ما يناسب حاجتهم ، فالفطرة التى فطر الله عليها الخلائق ، اقتضت أن تلجا النفوس إلى قوة عليا عند ضعفها ، وتطلب غنيا أعلى عند فقرها ، وتوابا رحيما عند ذنبها ، وسميعا بصيرا مجيبا عند سؤالها ، ومن هنا كانت لكل مرحلة من مراحل الخلق التى قدرها الله ، ما يناسبها من أسمائه وصفاته وأفعاله .
دنيا الابتلاء لابد من معرفة ما يناسبنا فيها من الأسماء
وهذه الأسماء قد لا ينفع الدعاء بها أو ببعضها فى مرحلة أخرى كمرحلة الدار الآخرة ، فلو دعا الكفار والمشركون ربهم يوم القيامة بأسمائه :
العظيم القريب المجيب الرفيق الرحمن الرحيم الكريم الأكرم الغفور الغفار أن يفرج كربهم ، وأن يعفو عنهم ، وأن يقبل توبتهم ، أو يخفف عنهم يوما من العذاب ما تقبل منهم .
قال تعالى : " وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ . قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ " ( غافر : 49، 50)
ومن ثم فإن لكل مرحلة من مراحل الخلق لها ما يناسبها من الحكم وإبداء الأسماء والصفات .
ولذا قال النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث الشفاعة :
" فأنطلق فآتى تحت العرش فاقع ساجدا لربى عز وجل ، ثم يفتح الله علىّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد من قبلى ، ثم يقال : يا محمد : ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع ". ( البخارى )
وتلك المحامد أسماء من أسماء الله تعالى لم يعلمها أحد من قبل ، يتعلمها النبى صلى الله عليه وسلم ويدعو الله بها فيستجيب له .
رأى ابن القيم فى مقتضى الأسماء الحسنى
ذكر ابن القيم رحمه الله فى شأن الموحدين أن العبد إذا كانت همته أعلى ، ونفسه أشرف ، أقبل على ربه متدبرا لعهده ، ففهمه وحفظه ، وعلم أن لربه شأنا فى عهده ، ليس كشأن غيره ، فوجد ربه قد تعرف إليه ، وعرفه بنفسه ، ووصفه ، واسمه ، وفعله ، وعرفه أيضا بأحكامه .
وكذلك يفهم العبد أيضا كيف اقتضت أسماؤه وصفاته لوجود النبوة والشرائع ، وأن لا يترك خلقه سدى ، وكيف اقتضت ما تضمنته من الأوامر والنواهى ، وكيف اقتضت وقوع الثواب والعقاب والمعاد ، وأن ذلك من موجبات أسمائه وصفاته ، بحيث ينزه عما يزعم أعداؤه من ذلك ، ويرى شمول القدرة ، وإحاطتها بجميع الكائنات ، حتى لا يشذ منها مثقال ذرة ، ويرى أنه لو كان معه إله آخر لفسد العالم ، وأنه سبحانه لو جاز عليه النوم لتدكدك هذا العالم بأسره ، ويرى ذلك الإسلام والإيمان اللذين تعبد الله بهما جميع عباده ، كيف انبعاثهما من الصفات المقدسة .
ولما أدرك الموحدون هذه الحكم والغايات سعوا فى تحقيق مقتضى الأسماء والصفات ، فجعلوا حياتهم لله ، وعقدوا قلوبهم على ترك مخالفته ومعاصيه .
فهممهم مصروفة إلى القيام بما يحب ويرضى من الأقوال والأفعال ، يقصدون من العبادة أكملها ، ومن الأوقات أولها .
امتلأت قلوبهم من معرفة الله عز وجل ، وغمرت بمحبته وخشيته ، وإجلاله ومراقبته ، فسرت المحبة فى أجزائهم، فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب ، قد أنساهم حبه ذكر غيره ، فامتلئوا بحبه عن حب من سواه ، وبذكره عن ذكر من سواه ، وبخوفه ورجائه ، والرغبة إليه والرهبة منه، والتوكل عليه ، والإنابة إليه ، والسكون إليه ، والتذلل والانكسار بين يديه ، عن تعلق ذلك منهم بغيره ، فإذا صارت للموحد أسماء ربه وصفاته مشهدا لقلبه ، أنسته ذكر غيره ، وشغلته عن حب ما سواه .
فحينئذ يكون الرب سبحانه سمعه الذى يسمع به ، وبصره الذى يبصر به ، ويده التى يبطش بها ، ورجله التى يمشى بها ، فيبقى قلب العبد نورا ، لمعرفة محبوبه ومحبته ، وعظمته وجلاله وكبريائه ، وناهيك بقلب هذا شأنه ، فيا له من قلب موحد خالص ، تقى نقى ، ما أدناه من ربه ، وما أحظاه فى قربه .
هل قضية الإحصاء متروكة للعقل أم لحكم النص
هل قضية إحصاء التسعة والتسعين متروكة لاختيار الشخص ؟
أم لحكم الدليل وورود النص؟
وهل أسماء الله الحسنى الواردة فى الكتاب والسنة أكثر من تسعة تسعين ، أو مائة إلا واحدا ؟
لقد صارت طوائف المسلمين فى ذلك فريقين ووجهة وسط :
الأول : فريق متوسع فى إحصاء الأسماء يجمع منها ما يشاء ، ويتوهم أنه طالما الأسماء الحسنى أكثر من تسعة وتسعين ، فالأمر فى إحصاء الأسماء من الكتاب والسنة مشاع عقلى لاستخراج الكمال الإلهى ، ومن ثم أخذ صاحب هذه الوجهة يشتق من أفعال الله تعالى وأوصافه ما يشاء من الأسماء ، أو يطلق ما قيده الله فى كتابه ، أو يفصل ما أضافه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سنته . وقد تتبعت ما ذكره المتوسعون فبلغ إحصاؤهم للأسماء قرابة المائتين والتسعين اسما .
الثانى : جزم ابن حزم بأن أسماء الله الكلية محصورة فى تسعة وتسعين اسما فقط ، وهى الواردة فى الكتاب والسنة ، ولما ألزمه الناس باستخراج التسعة وتسعين ، لم يتمكن إلا من جمع أربعة وثمانين اسما فقط .
وقد كشفت نتيجة البحث العلمى أن ما تعرف الله به إلى عباده من الأسماء الحسنى التى وردت فى كتابه وسنة رسوله r هى تسعة وتسعون ، سواء فى قائمة الأسماء المطلقة ، أو قائمة الأسماء المقيدة ، وأن الأمر فيها مرهون بضوابط ، يستطيع من خلالها كل باحث أن يطبقها ، عند إحصائه للأسماء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق