[ المطلب الحادى عشر]
معانى التأويل فى القرآن والسنة
· التأويل لغة رجوع الكلام ومآله إلى ما ينطبق عليه .
· التأويل بمعنى الحقيقة التى يؤول إليها الكلام .
· أدلة القرآن على المعنى الأول للتأويل .
· أدلة السنة على المعنى الأول للتأويل .
· المعنى الثانى للتأويل هو التفسير والبيان .
· المعنى الثالث صرف اللفظ من معنى إلى آخر بدليل .
· التحريف هو صرف اللفظ عن معناه بغير دليل .
· التحريف بالتأويل أقبح من التعطيل والتكييف والتمثيل .
· أنواع التأويلات الباطلة التى هى من قبيل التحريف .
· نتائج التأويل الباطل وتحريف الكلم عن مواضعه .
· مثال من أوّل شيئا بعقله وقدمه على النقل الصحيح .
· لوازم القول بالتأويل الباطل .
معاني التأويل فى القرآن والسنة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
فى هذا المطلب بإذن الله نتناول الحديث عن معانى التأويل فى القرآن والسنة ، وأنواع التأويلات الباطلة ، وذلك من خلال المحاور التالية :
التأويل لغة رجوع الكلام ومآله إلى ما ينطبق عليه
التأويل : مصدر أوَّل يوؤله تأويلاً . وقولهم : آل يؤول أى : عاد إلي كذا ، ورجع إليه ،
ومنه : (المآل) وهو ما يؤول إليه الشئ ، ومما يوافقه فى الاشتقاق ( الآل) فإن آل الشخص
من يؤول إليه كـآل إبراهيم وآل فرعون .
وتسمى العاقبة تأويلا ؛ لأن الأمر يصير إليها ، ومنه قوله تعالى : " فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا " (النساء : 59)
وتسمى حقيقة الشئ المخبر به تأويلا ؛ لأن الأمر ينتهى إليها ، ومنه قول الله تعالى : " هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ " ( الأعراف : 53)
التأويل بمعنى الحقيقة التى يؤول إليها الكلام
المعنى الأول الذى عرف بين الصحابة والتابعين وسائر السلف هو : الحقيقة التي يؤول إليها الكلام. وهذا المعنى هو الذى نطقت به آيات الكتاب ، فلقد تكررت كلمة التأويل فى أكثر من عشرة مواضع كان معناها فى جميع استعمالاتها : الحقيقة التى يؤول إليها الكلام .
وتأويل الخبر عند السلف : وقوعه ، وتأويل الأمر : تنفيذه وطاعته . ولهذا قال سفيان بن عيينة : " السنة هى تأويل الأمر والنهى " .
قال ابن القيم رحمه الله : " التأويل فى كتاب الله المراد به حقيقة المعنى الذى يؤول اللفظ إليه، وهو الحقيقة الموجودة فى الخارج .
فإن الكلام نوعان : خبر وطلب ، فتأويل الخبر هو : الحقيقة ، وتأويل الوعد والوعيد هو : نفس الموعود والمتوعد به ، وتأويل ما اخبر الله به من صفاته وأفعاله : نفس ما هو عليه سبحانه ، وما هو موصوف به ، وتأويل الأمر هو : نفس الفعل المأمور ".
أدلة القرآن على المعنى الأول للتأويل
قول الله تعالى :
(1)
" وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا " (يوسف:100)
أى : هذا ماآلت إليه رؤياى التى كنت رأيتها، قد حققها ربى .
(2)
" هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ "
(الأعراف:53)
" تَأْوِيلَهُ " : أى : ما وعدوا به من العذاب ، والنكال ، والجنة ، والنار .
(3)
" بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ " (يونس:39)
أي : عاقبة ما وعد الله فى القرآن أنه يؤول إليه أمرهم من العقوبة .
(4)
" فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ "
( آل عمران :7)
أدلة السنة على المعنى الأول للتأويل
1- عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:
" كان النبي r يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده :
"سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن " (البخاري) .
أي : يُنفِّذ الأمر الذي ورد في قول الله تبارك وتعالى: " فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ " ( الفتح :3)
فالتأويل عندها هو : الحقيقة التى يؤول إليها الكلام ، وتأويل الأمر تنفيذه .
2- روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن أسامة بن زيد t أنه قال:
" كان النبي r وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب
كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى ، وكان النبي r يتأول العفو ، ما أمره الله به
حتى أذن الله فيهم ، فلما غزا رسول الله r بدراً ، فقتل الله به صناديد كفار قريش ".
قوله : " يتأول العفو " أى : يُنفِّذ الأمر بالعفو عن المشركين الوارد فى قوله تعالى :
" وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (البقرة:109)
المعنى الثانى لللتأويل هو: التفسير والبيان
ويقصدون به كشف المعنى ، وتوضيح مراد المتكلم .
وهذا التأويل كالتفسير يحمد حقه ، ويذم باطله .
ومثاله : دعاء النبي r لابن عباس t: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" .
قال عبد الله بن عباس t: " أنا من الراسخين في العلم ، الذين يعلمون تأويله "
أي : أنه يعلم التفسير والبيان.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " وأما التأويل في اصطلاح أهل التفسير والسلف من أهل الفقه والحديث فمرادهم به معنى التفسير والبيان .
ومنه قول ابن جرير وغيره : " القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا " يريد : تفسيره .
ومنه قول الإمام أحمد في كتابه في الرد على الجهمية : "فيما تأولته من القرآن على غير تأويله" فأبطل تلك التأويلات التي ذكروها .
فهذا التأويل يرجع إلى : فهم المعنى وتحصيله في الذهن ، والأول يعود إلى : وقوع حقيقته في الخارج " .
المعنى الثالث : صرف اللفظ من معنى إلى آخر بدليل
بمعنى : صرف الآية عن معناها الظاهر إلى معنى آخر، بدليل من الكتاب والسنة .
واشتهر هذا المعنى فى عرف المتأخرين من الفقهاء ورجال الأصول .
ومنه قوله تعالى :
(1)
" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ " (ق:16)
المراد قرب ذوات الملائكة ، وقرب علم الله ، والدليل :
" إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ " (ق:17) .
قوله : " " ظرف ، فأخبر أنهم أقرب إليه من حبل الوريد ، حين يتلقى المتلقيان ما يقول .
(2)
" لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ .إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ .فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ . ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ "
(القيامة:16-19)
القارئ هنا جبريل ، والدليل ما جاء فى رواية البخارى :
" فكان إذا أتاه جبريل استمع ، فإذا ذهب قرأه كما قرأه "
(3)
" اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ
وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " (الزمر:42)
مع أن الذي يُباشر التوفي هم الملائكة ، قال تعالى:
" قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ " (السجدة:11)
" وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا " (الأنعام:61)
قال ابن القيم رحمه الله :
" وبالجملة فالتأويل الذى يوافق ما دلت عليه النصوص ، وجاءت به السنة ويطابقها هو التأويل الصحيح ، والتأويل الذى يخالف ما دلت عليه النصوص ، وجاءت به السنة هو التأويل الفاسد، ولا فرق بين باب الخبر والأمر فى ذلك " .
التحريف هو : صرف اللفظ عن معناه بغير دليل
بصرف معانى النصوص الظاهرة إلى معان ابتدعوها بغير دليل ، ووجد فيه كثير من علماء الخلف من المعتزلة والأشاعرة بغيتهم ؛ لإضفاء الشرعية على معتقداتهم.
فقالوا فى : الاستواء : استيلاء وقهر ، وقالوا معنى فى السماء أى : عذابه وسلطانه ، ومعنى اليدين : القدرة ، ومعنى الوجه : الذات ، ومعنى المجئ : مجئ الأمر ، ومعنى النزول : نزول الرحمة ، ومعنى الرضا : إرادة الإكرام ، والغضب : إرادة الانتقام .
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: " وأما التأويل بمعنى : صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح كتأويل من تأول : استوى بمعنى استولى ونحوه .
فهذا عند السلف والأئمة باطل لا حقيقة له ، بل هو من باب تحريف الكلم عن مواضعه ، والإلحاد في أسماء الله وآياته ، فلا يقال في مثل هذا التأويل : لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم ، بل يقال فيه :
" بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ " (يونس : 18)
كتأويلات الجهمية والقرامطة الباطنية ؛ كتأويل من تأول الصلوات الخمس : بمعرفة أسرارهم ، والصيام بكتمان أسرارهم ، والحج : بزيارة شيوخهم ، والإمام المبين : بعلي بن أبي طالب ، وأئمة الكفر : بطلحة والزبير .... ونحو ذلك.
فهذه التأويلات من باب تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في آيات الله ، وهي من باب الكذب على الله وعلى رسوله وكتابه ، ومثل هذه لا تجعل حقا ، حتى يقال إن الله استأثر بعلمها بل هي باطل مثل شهادة الزور.."
ثم قال: " وأصل وقوع أهل الضلال في مثل هذا التحريف ؛ الإعراض عن فهم كتاب الله تعالى كما فهمه الصحابة والتابعون ، ومعارضة ما دل عليه ، بما يناقضه ، وهذا هو من أعظم المحادة لله ولرسوله ، لكن على وجه النفاق والخداع " .
التحريف بالتأويل أقبح من التعطيل والتكييف والتمثيل
ذكر ابن القيم أن التأويل شر من التعطيل ؛ فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل، والتلاعب بالنصوص ، وإساءة الظن بها ؛ فإن المعطل والمؤول اشتركا فى نفى حقائق الأسماء والصفات ، وامتاز المؤول بتلاعبه بالنصوص ، وانتهاكه لحرمتها ، وإساءة الظن بها ، ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهره الضلال والإضلال ، فجمعوا بين أربعة محاذير :
الأول : اعتقادهم أن ظاهر كلام الله ورسوله r المحال الباطل ، ففهموا التشبيه أولا ، ثم انتقلوا عنه إلى ما هو أكثر ضلالا .
الثانى : تعطيل حقائق النصوص .
الثالث : نسبة المتكلم الكامل العلم ، الكامل البيان ، التام النصح إلى ضد البيان والهدى والإرشاد، وإن المتحيرين المتهوكين عبروا بعبارة ، لا توهم الباطل ما أوهمته عبارة المتكلم بتلك النصوص .
الرابع : تلاعبهم بالنصوص ، وانتهاك حرماتها .
أنواع التأويلات الباطلة التى من قبيل التحريف
1. كل تأويل لا يحتمله اللفظ في أصل وضعه ، وكما جرت به عادة الخطاب بين العرب.
كتأويل لفظ (الأحد) بأنه المجرد من الصفات، أو الذي لا جزء له ؛ فإنه غير معروف فى اللغة
2. كل تأويل لا يحتمله اللفظ بحسب التركيب الخاص من تثنية وجمع ، وإن جاز أن يحتمله اللفظ في تركيب آخر ، كتأويلهم قوله تعالى:
" قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ " (ص:75)
بأن اليدين هما القدرة أو النعمة ؛ فإن لفظ اليد مفردا ، وعند إطلاقه قد يحتمل أحد هذين المعنيين أما وهو فى صيغة التثنية ، وفى هذا التركيب بالذات فإنه لم يرد فى اللغة بهذا المعنى .
3. كل تأويل لا يحتمله السياق المعين ، وإن جاز في غيره ، كتأويلهم قوله تعالى : " هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ " (الأنعام:158) بأن إتيان الرب هنا معناه: إتيان بعض آياته ، أو إتيان أمره ، فهذا التأويل لا يحتمله السياق بحال من الأحوال .
4. كل تأويل لا يُؤلف استعمال اللفظ في ذلك المعني المراد في لغة المخاطب ، وإن كان مألوفا كاصطلاح خاص . كتأويل لفظ (الأُفول) بالحركة فى قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام :
" فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ " (الأنعام:76)
فإن هذا غير معهود فى لغة العرب البتة ، بل المعهود الأفول بمعنى الغياب ، فلا يجوز حمل آية من القرآن عليه ؛ لأنه نوع من التلبيس .
5. التأويل الذى لا دليل عليه من سياق أو قرينة ، لأن هذا لا يقصده المتكلم الذى يريد في خطابه هداية الناس والبيان لهم .
نتائج التأويل الباطل وتحريف الكلم عن مواضعه
ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن من أعظم آفات التأويل وجناياته : أنه إذا سلط على أصول الإيمان والإسلام ؛ اجتثها ، وقلعها .... وذلك أن مَعقد هذه الأصول العشرة تصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر ، فعمدوا إلى أجل الأخبار وهو : ما أخبر به عن الله من أسمائه وصفاته ونعوت كماله ، فأخرجوه عن حقيقته، وما وضع له.
مثال من أول شيئا بعقله وقدمه على النقل الصحيح
ضرب ابن القيم رحمه الله تعالى مثالا لمن أوّل شيئا من الشرع ، فقال :
" ومثال من أول شيئاً من الشرع ، وزعم أن ما أوله هو الذي قصده الشرع ، مثال من أتى إلى دواء قد ركبه طبيب ماهر ، ليحفظ صحة جميع الناس أو أكثرهم .
فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواء الأعظم لرداءة مزاج كان به ، ليس يعرض إلا للأقل من الناس ، فزعم أن بعض تلك الأدوية ، التي صرح باسمها الطبيب الأول في ذلك الدواء العام المنفعة ، لم يرد به ذلك الدواء العام الذي جرت العادة في اللسان أن يدل بذلك الاسم عليه ، وإنما أراد به دواء آخر ، مما يمكن أن يدل عليه بذلك باستعارة بعيدة ، فأزال ذلك الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم ، وجعل فيه بدله الدواء الذي ظن أنه قصده الطبيب ، وقال للناس هذا هو الذي قصده الطبيب الأول .
فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على الوجه الذي تأوله عليه هذا المتأول ، ففسدت أمزجة كثير من الناس .
فجاء آخرون ، فشعروا بفساد أمزجة الناس من ذلك الدواء المركب ، فراموا إصلاحه بأن بدلوا بعض أدويته ، بدواء آخر غير الدواء الأول ، فعرض من ذلك للناس نوع من المرض غير النوع الأول .
فجاء ثالث فتأول في أدوية ذلك المركب غير التأويل الأول والثاني ، فعرض للناس من ذلك نوع ثالث من المرض غير النوعين المتقدمين .
فجاء متأول رابع ، فتأول دواء آخر غير الأدوية المتقدمة ، فعرض منه للناس نوع رابع من المرض غير الأمراض المتقدمة .
فلما طال الزمان بهذا الدواء المركب الأعظم ، وسلط الناس التأويل على أدويته ، وغيروها ، وبدلوها، عرض منه للناس أمراض شتى ، حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حق أكثر الناس .
وهذه هي حالة الفرق الحادثة في هذه الشريعة مع الشريعة ، وذلك أن كل فرقة منهم تأولت غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى ، وزعمت أنه هو الذي قصده صاحب الشرع ، حتى تمزق كل ممزق ، وبعد جدا عن موضوعه الأول .
ولما علم صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أن مثل هذا يعرض ولا بد في شريعته قال r: " ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة " الترمذي يعني بالواحدة ؛ التي سلكت ظاهر الشرع ، ولم تؤوله .
وأنت إذا تأملت ما ظهر فى الشريعة فى هذا الوقت من الكلام الفاسد العارض فيها من قبل التأويل ، تبينت أن هذا المثال صحيح ، وأول من غير هذا الدواء هم الخوارج ، ثم المعتزلة بعدهم، ثم الأشعرية ، ثم الصوفية ، ثم جاء أبو حامد الغزالى فطم الوادى على القرى ".
لوازم القول بالتأويل الباطل
1. أن يكون الرسول r قد ترك الناس في ذلك بدون بيان للحق الواجب سلوكه ، ولم يهد الأمة بل رمز إليها رمزاً ، وألغز ألغازاً ، ومعلوم أنه ليس في الرمز والألغاز بيان .
2. أن يكون الرسول r قد تكلم في هذا الباب باب الصفات بما ظاهره خلاف الحق ، ولم يتكلم في ذلك كلمة واحدة توافق مذهب الخلف المتكلمين من النفاة .
3. الطعن في القرآن الذي هو تبيان لكل شئ ، وهدي ، ورحمة ، وقول فصل ليس بالهزل ، وأن من قال به فقد هدي إلى صراط مستقيم ، وأين الهداية إذا كان ما يقوله المتأولون حقا ؟!
4. الطعن في وظيفة الرسول التي هي البلاغ ، والله وصفه بأنه قد بلغ البلاغ المبين ، وقد نزل قوله تعالى قبل وفاته r : " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا " (المائدة:3)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق