[ المطلب العاشر]
قياس الأولى وطريقة السلف فى إثبات الصفات
· التوحيد عند السلف يؤدى إلى إثبات الصفات .
· طريقة السلف النفى المجمل والإثبات المفصل .
· طريقة السلف النفى المتضمن لكمال الضد .
· طريقة السلف فى الإثبات استخدام قياس الأولى .
· لابد للموحد من أن يحذر من التعطيل والتحريف .
· رد شيخ الاسلام ابن تيمية على المعطلة .
· التأويل بغير دليل تحريف للكلم عن مواضعه .
· مذهب السلف وسط بين التعطيل والتمثيل .
قياس الأولى وطريقة السلف الصالح فى إثبات الصفات
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
فى هذا المطلب نتناول بإذن الله الحديث عن قياس الأولى ، وطريقة السلف فى إثبات الصفات ، وبيان باقى القواعد الأساسية لفهم منهج أهل السنة والجماعة فى هذا الباب ، وذلك من خلال المحاور التالية :
التوحيد عند السلف يؤدى إلى إثبات الصفات
علمنا أن القاعدة الأولى التى قام عليها اعتقاد السلف الصالح هى : توحيد الله فى ذاته وصفاته وأفعاله بنفى قياس التمثيل والشمول . أما القاعدة الثانية فهى إثبات الصفات على مراد الله ورسوله r ؛ لأن الله بعد أن بدأ بالتوحيد أولا فى قوله تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " أتبع ذلك بإثبات الأسماء والصفات فقال : " وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ".
فالتوحيد يستلزم إثبات الأسماء والصفات ، وهذا ما يناسب الفطر السليمة والعقول المستقيمة. وبيان ذلك أن المتوحد المنفرد عن غيره ، لابد أن ينفرد بشئ يتميز به ، ويكون هو الوحيد المتصف به ، فلو قلت مثلا : فلان لا نظير له ، سيقال لك فى ماذا ؟ تقول : فى علمه ، أو فى حكمته ، أو فى غناه ، أو فى ملكه .
لكن من العبث أن يقال لك : فلان له لا نظير له فى ماذا؟ فتقول : فى لا شئ ، أو : لا صفة له أصلا ، فالله عز وجل – وله المثل الأعلى – أثبت لنفسه أوصاف الكمال التى انفرد بها ، ونفى عن نفسه أوصاف النقص؛ ليثبت توحده فى ذاته وصفاته .
وطريقة السلف فى إثبات الصفات هى : طريقة القرآن والسنة ، وهى تعتمد على أمرين اثنين :
الأول: النفى المجمل لصفات النقص ، والإثبات المفصل لصفات الكمال .
الثانى : النفى المتضمن لكمال الضد .
أولا : النفى المجمل والإثبات المفصل
ذكر ابن تيمية أن الله بعث رسله بإثبات مفصل ، ونفى مجمل ، فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل ، ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل . قال تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " ، وقال : " وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ " ( الإخلاص : 4) وقال تعالى : " سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ . وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "( الصافات : 180 -182) فسبح نفسه عما يصفه المشركون ، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك ، وسلامة ما نقلوه عن رب العالمين ، وحمد نفسه إذ هو سبحانه المستحق للحمد بما له من الأسماء والصفات .
وقد أثبت الله عز وجل لنفسه صفات الكمال على وجه التفصيل فقال : " هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ . هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ .هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " ( الحشر : 22 ،24)
واعلم أن طريقة السلف فى الإثبات والنفى على العكس من طريقة المتكلمين ؛ فإنهم يجملون فى الإثبات ، ويفصلون فى النفى ، فمثال الإجمال فى الإثبات ، إثبات أهل الاعتزال وجود ذات الله فقط ، ونفى الصفات عنه .
ومثال التفصيل فى النفى قولهم فى مدح الله : ليس بجسم ، ولا شبح ، ولا لحم ، ولا دم ، ولا طول ، ولا عرض .. الخ ، وهذا يماثل قول الأحمق فى مدح الملك : لست بزبال ، ولا كناس ، ولا حمار ، ولا نسناس ، ولا حقير .. الخ وكان يكفيه أن يقول : ليس لك نظير فيما رأت عيناى .
وهذه الطريقة هى فى الحقيقة طريقة ذم لا مدح ، فالنفوس مفطورة على أن تمدح بالإجمال فى النفى ، والتفصيل فى الإثبات وليس العكس .
وكل لفظ أحدثه الناس ، فأثبته قوم ونفاه آخرون ، فليس علينا أن نطلق إثباته ولا نفيه ؛ حتى نفهم مراد المتكلم ؛ فإن كان مراده حقا موافقا لما جاءت به الرسل والكتاب والسنة من نفى أو إثبات قلنا به ، وإن كان باطلا مخالفا لما جاء به الكتاب والسنة ، منعنا القول به .
ثانيا : النفى المتضمن لكمال الضد
عامة ما يأتى به القرآن فى نفى السوء والنقص عن الله يتضمن إثبات محاسنه وكماله ، كقوله تعالى : " اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ " ( البقرة : 255) فنفى أخذ السنة والنوم له يتضمن كمال حياته وقيوميته ، وقوله : "وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ" ( ق: 38) يتضمن كمال قدرته ، وهكذا سائر ما ورد فى الكتاب والسنة .
وكل نفى لا يستلزم ثبوتا ، لم يصف الله به نفسه ؛ فالنفى المحض لا كمال فيه ، والنفى لا يكون مدحا إلا إذا تضمن ثبوتا .
طريقة السلف فى الإثبات استخدام قياس الأولى
يجوز فى باب إثبات الصفات لله عز وجل ، استخدام قياس الأولى ، كما قال تعالى : " وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى " ( النحل : 60) فكل كمال للمخلوق لا نقص فيه ، فالخالق أولى به، وكل كمال ثبت نوعه للمخلوق ؛ فإنما استفاده من ربه ، وهو أحق به منه ، وكل عيب أو نقص يجب أن ينزه عنه بعض المخلوقات ، فالرب أولى أن يتنزه عنه .
وكل ما ثبت عن النبى r من إشارة حسية فى الصفات الإلهية ، فهو من باب إثبات الصفات بقياس الأولى ، كما ورد فى حديث قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن ، وحديث اليهودى فى حمل السموات على إصبع ، وغير ذلك .
وعدم فهم المتكلمين لذلك ، وقياسهم تلك الإشارات بقياس التمثيل والشمول ، أدى بهم إلى رد السنة وتعطيلها .
والله تعالى له المثل الأعلى ، فلا يجوز أن يقاس على غيره قياس تمثيل يستوى فيه الأصل والفرع ، ولا يقاس مع غيره قياس شمول تستوى أفراده فى حكمه ، فإن الله سبحانه ليس مثلا لغيره ، ولا مساويا له أصلا ، بل مثل هذا القياس هو ضرب الأمثال لله ، وهو من الشرك والعدل بالله ، وجعل الند لله ، وجعل غيره له كفوا وندا .
لابد للموحد أن يحذر من التعطيل والتحريف
وذلك صيانة للقاعدة الثانية ، فيحذر :
1- التعطيل : وهو رد النصوص الثابتة فى الكتاب والسنة ، ورفض محتواها ، وعدم التسليم لها.
2- التحريف : وهو التأويل بغير دليل .
وأما التعطيل فسببه :اعتقاد المعطل أن إثبات الصفات يلزم منه التمثيل والتشبيه ، ومثال ذلك ظن المتوهم أنه إذا وصف الله الاستواء على العرش ، كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام كقوله تعالى : " وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ . لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ " فيتخيل أنه إذا كان مستويا على العرش ، كان محتاجا إليه كحاجة المستوى على الفلك والأنعام ، فلو غرقت السفينة لسقط المستوى عليها ، ولو عثرت الدابة لخر من فوقها. ومقياس هذا عنده : أنه لو انعدم العرش لسقط الرب سبحانه وتعالى .
فالمعطل جسد صورة لربه فى ذهنه تشبه صورة الإنسان ، فأحس بالرفض لتلك الصورة ، والرغبة فى تنزيه الله عنها ، فادعى أن ظاهر النصوص غير مراد ، وقام بتعطيلها ، ونفى صفة الاستواء على العرش عن الله عز وجل ؛ ولذلك قال ابن تيمية رحمه الله : " كل ممثل معطل ، وكل معطل ممثل " .
رد ابن تيمية على المعطلة
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن كثيرا من الناس يتوهم فى صفات الله عز وجل أنها تماثل صفات المخلوقين ، ثم يريد أن ينفى ذلك الذى فهمه ، فيقع فى أربعة أنواع من المحاذير :
1- كونه مثّل ما فهمه من النصوص ، بصفات المخلوقين .
2- أنه لما ظن أن الذى يفهم من كلام الله ورسوله r هو التمثيل الباطل ، عطل النصوص عما دلت عليه من معناها اللائق بالله تعالى.
3- أنه نفى تلك الصفات عن الله بغير علم ، فيكون معطلا لما يستحقه الرب تعالى .
4- أنه وصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الجمادات ، أو المعدومات فيكون قد عطل صفات الكمال التى يستحقها ، ومثله بالمعدومات والمنقوصات ، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات ، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات ، فيجمع فى كلام الله وفى الله بين التعطيل والتمثيل ؛ فيكون ملحدا فى أسماء الله وآياته .
التأويل بغير دليل تحريف للكلم عن مواضعه
تقدم أنه لابد لمن أثبت الصفات على منهج السلف أن يحذر من نوعين من الضلال : التعطيل، وقد تقدم ذكره ، والثانى : التحريف ، وهو : التأويل بغير دليل .
والتحريف سببه : أن المعطل بعد رفضه للنصوص لاعتقاده فيها التمثيل والتشبيه ، أراد أن يستر جريمة التعطيل ، حتى لا يقال أنه يكذب القرآن والسنة ، فأخفى جريمته تحت شعار التأويل وادعاء البلاغة ، واستبدل المعنى المراد من النصوص ، بمعنى بديل لا يقصده المتكلم .
ومثال ذلك : قول المعتزلة والأشعرية بأن الاستواء معناه : الاستيلاء ، واليدان هما : القوة والقدرة ، وهذا منكر من القول وتزوير فى لغة العرب .
ولذلك ذكر ابن تيمية أن التحريف بالتأويل ، أقبح من التعطيل والتكييف والتمثيل ؛ لأنه ما حرّف إلا لأنه عطّل ، وما عطل إلا لأنه مثّل .
مذهب السلف وسط بين التعطيل والتمثيل
ذكر شيخ الاسلام ابن تيمية أن مذهب السلف وسط بين التعطيل والتمثيل ، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه ، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه ، ولا ينفون عنه صفاته .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق