مقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد

الإيمان قول ، وعمل ..

يزيد بالطاعة ، وينقص بالمعصية ..

يزيد بالتفكر ، وينقص بالغفلة ..

يزيد بالتصديق والامتثال ، وينقص بالشك والإعراض ..

هيا نؤمن ساعة .. مدونة تزيدك إيمانا ..

بعلم نافع تتعلمه .. بعبرة تعتبر بها .. بسنة تمتثلها .. بآية تتدبرها .. بشبهة تمحوها ..

صفحاتها : روضة من رياض الجنة

تأنس فيها بذكر الله .. وترضى فيها بشرعه .. وتتدبر أمره ونهيه ..

اغتنم خيرها بالعمل بما فيها ، والدعوة إليه .

كان من دعاء ابن مسعود رضى الله عنه :

" اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها " .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .


الخميس، 2 يونيو 2011

لمطلب الخامس عشر:إثبات علو الذات ونصوص المعية


[ المطلب الخامس عشر]
إثبات علو الذات والفوقية والنصوص الواردة فى المعية
·      دلالة النصوص على إثبات العرش والاستواء .

·      دلالة النصوص النقلية على أن الله فى السماء .

·      النصوص الدالة على معية الله لخلقه .

·      اعتقاد الصحابة فى الجمع بين النصوص .

·      اعتقاد الائمة الأربعة فى الجمع بين النصوص .

·      اعتقاد السلف وأتباعهم فى الاستواء والمعية .

·      اعتقاد الأشعرى فى إثبات الاستواء والمعية .

·      الرد على المتكلمين فى تأويلهم لقول الجارية .

إثبات علو الذات والفوقية والنصوص الواردة فى المعية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
    فى هذا المطلب نتناول بإذن الله الحديث عن تطبيق منهج السلف الصالح فى فهم مسألة علو الذات والفوقية ، والجمع بينها وبين نصوص المعية من خلال المحاور التالية :
دلالة النصوص على إثبات العرش والاستواء
قال الله تعالى : " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " (طه : 5)
وقال تعالى : " هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ  يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ " (الحديد : 4)
وقال رسول الله r : " إذا سألتم الله فسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة أراه فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة " ( البخارى)
وقوله r لسعد بن معاذ فى حكمه على بنى قريظة : " لقد حكم فيهم اليوم بحكم الله الذى حكم به من فوق سبع سموات " ( السلسلة الصحيحة)
دلالة النصوص النقلية على أن الله فى السماء
قال تعالى : " أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ .  أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ " (الملك : 16 ،17)
وقال تعالى :"وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ " (الأنعام :3)
وعن معاوية بن الحكم السلمى رضى الله عنه أنه قال : " وكانت لى جارية ترعى غنما قبل أحد والجوانية ، فاطلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها ، وأنا رجل من بنى آدم آسف كما يأسفون ، لكنى صككتها صكة ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظّم ذلك علىّ .
    قلت : يا رسول الله أفلا أُعتقها ؟ قال : " ائتنى بها " فأتيته بها فقال لها:" أين الله ؟ " قالت: فى السماء . قال : " من أنا ؟ " قالت : أنت رسول الله . قال :" أعتقها فإنها مؤمنة ".  (مسلم )
النصوص الدالة على معية الله لخلقه
قال تعالى : " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " (المجادلة : 7)
وقال تعالى : " يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ " (النساء : 108)
وقال تعالى : " إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا " (التوبة : 140)
وقال تعالى :" فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ " (محمد : 35)
قال تعالى :"وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ"(ق : 16)
وقال تعالى : " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ " (البقرة : 186)
اعتقاد الصحابة فى الجمع بين النصوص
    عن أنس رضى الله عنه قال : " فكانت زينب تفخر على أزواج النبى صلى الله عليه وسلم وتقول : زوجكن أهاليكن وزوجنى ربى من فوق سبع سموات ". ( البخارى )
" وكانت تقول : إن الله أنكحنى فى السماء "  ( البخارى )
    وفى المسند عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه دخل على عائشة رضى الله عنها يعودها فى مرض موتها فكان مما قال لها : " وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات "  ( رواه أحمد )
   
    وعن عائشة رضى الله عنها قالت : " تبارك الذى وسع سمعه كل شئ ، إنى لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علىّ بعضه ، وهى تشتكى زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول :
    يا رسول الله أكل شبابى ، ونثرت له بطنى ، حتى إذا كبرت سنى ، وانقطع ولدى ظاهر منى . اللهم إنى أشكو إليك فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات :" قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ " ( المجادلة : 1)
اعتقاد الأئمة الأربعة فى الجمع بين النصوص
(1) الإمام أبو حنيفة رحمه الله (ت : 150)
    أتت امرأة من ترمذ كانت تجالس جهما بالكوفة إلى أبى حنيفة رحمه الله فقالت له : أنت الذى تعلم الناس المسائل وقد تركت دينك ، أين إلهك الذى تعبده ؟ فسكت عنها ، ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها ، ثم خرج وقد وضع كتابا : " إن الله سبحانه فى السماء دون الأرض" .
    فقال له رجل : "أرأيت قول الله تعالى : " وَهُوَ مَعَكُمْ" . قال : " هو كما تكتب للرجل إنى معك وأنت عنه غائب ".
    وقال أيضا فى الفقه الأكبر : " من قال لا أعرف ربى فى السماء أم فى الأرض فقد كفر ؛ لأن الله تعالى يقول : " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " وعرشه فوق سبع سموات " .
    قلت : فإن قال إنه على العرش ، ولكنه يقول : لا أدرى العرش فى السماء أم فى الأرض ؟ قال : " هو كافر ؛ لأنه أنكر أن يكون فى السماء ؛ لأن الله تعالى فى أعلى عليين ، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل " .
(2) الإمام مالك رحمه الله (ت :179 )
    قال " إن الله فى السماء ، وعلمه فى كل مكان لا يخلو منه مكان ، وتلا هذه الآية : " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ..." ( المجادلة : 7)
(3) الإمام الشافعى رحمه الله ( ت : 204)
    قال : " القول فى السنة التى أنا عليها ، ورأيت أصحابنا عليها أهل الحديث الذين رأيتهم وأخذت عنهم مثل : سفيان ومالك وغيرهما : الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وأن الله تعالى على عرشه فى سمائه يقرب من خلقه كيف شاء ، وأن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كيف شاء " . وقال : " خلافة أبى بكر حق قضاها الله فى سمائه ".
(4) الإمام أحمد رحمه الله ( ت: 241)
    قال أبو طالب : سألت أحمد عن رجل قال : ( إن الله معنا ) وتلا : " مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ " قال : " قد تجهم هذا . يأخذون بآخر الآية ويدعون أولها ، هلا قرأت عليه :" أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ " فالعلم معهم " . وقال : " الله تعالى على العرش فوق السماء السابعة العليا ، ويعلم ذلك كله ، وهو بائن من خلقه ، لا يخلو من علمه مكان ".
    وقال: " وأدركت من أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها ، فمن خالف شيئا من هذه المذاهب ، أو طعن فيها ، أو عاب قائلها ، فهو مبتدع خارج عن الجماعة ".
اعتقاد علماء السلف وأتباعهم فى الاستواء والمعية
(1) إسحاق بن راهويه رحمه الله ( ت: 238)
    قال فى قوله تعالى : " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ " حيث ما كنت فهو أقرب إليك من حبل الوريد ، وهو بائن من خلقه ". ( المجادلة : 7)
(2) الحارث بن أسد المحاسبى رحمه الله ( ت : 243)
قوله " أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ " : يعنى : فوق العرش ، والعرش على السماء ، لأن من كان فوق كل شئ على السماء : فى السماء ،وقد قال : " فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ " يعنى على الأرض ، لا يريد الدخول فى جوفها ."
(3) يحيى بن معاذ الرازى رحمه الله ( ت : 258)
    " الله تعالى على العرش ، بائن من الخلق ، قد أحاط بكل شئ علما ، وأحصى كل شئ عددا ، ولا يشك فى هذه المقالة إلا جهمى ردئ ، ضليل هالك مرتاب ، يمزج الله بخلقه ، ويخلط الذات بالأقذار والأنتان ".
(4) الإمام بن قتيبة رحمه الله ( ت : 276)
    " نحن نقول فى قوله :  " مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ " إنه معهم يعلم ماهم عليه ، كما تقول للرجل وجهته إلى بلد شاسع : احذر التقصير فإنى معك ، تريد أنه لايخفى عليّ تقصيرك .
    وكيف يسوغ لأحد أن يقول إنه سبحانه بكل مكان على الحلول فيه مع قوله : " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " ومع قوله : " إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ " كيف يصعد إليه شئ وهو معه ؟  وكيف تعرج الملائكة إليه وهو معهم ؟
    ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرهم لعلموا أن الله هو العلى ، وهو الأعلى ، وأن الأيدى ترتفع بالدعاء إليه ، والأمم كلها عجميها وعربيها تقول : إن الله فى السماء ما تركت على فطرها ".
(5) الإمام أبو عمر الطلمنكى ( ت: 249)
    " أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته على الحقيقة لا المجاز " .  وقال :" وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى :" وهو مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ " بأن ذلك علمه "
اعتقاد ابى الحسن الأشعرى فى إثبات الاستواء والمعية
   قال :     " نقول : إن الله عز وجل يستوى على عرشه استواء يليق به من غير طول استقرار كما قال : "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " (طه : 5)
    وقال : " إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ " .
    وقال حاكيا عن فرعون : " وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ" كذب موسى عليه السلام فى قوله : إن الله فوق السموات .
    وقال : " أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ " فالسموات  فوقها العرش ، فلما كان العرش فوق السموات قال: " أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ " لأنه مستو على العرش الذى فوق السموات ، وكل ما علا فهو سماء ، والعرش أعلى السموات .
    و ليس إذا قال " أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ " يعنى جميع السموات ، وإنما أراد العرش الذى هو أعلى السموات .
    ألا ترى أن الله تعالى ذكر السموات فقال " وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا " ولم يرد أن القمر يملأهن جميعا ، وأنه فيهن جميعا .
    وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية إن معنى قوله : "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى "  أنه استولى وملك وقهر ، وأن الله تعالى فى كل مكان ، وجحدوا أن يكون الله مستو على عرشه .
    ولو كان هذا كما ذكروه ؛ كان لا فرق بين العرش و الأرض السابعة .
    ولو كان مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء ، وهو تعالى مستو على الأشياء كلها ، لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء ، وعلى الحشوش والأقذار ، لأنه قادر على الأشياء كلها مستول عليها ، لم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول أن الله مستو على الحشوش والأخلية تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
    ولم يجز أن يكون الاستواء على العرش الذى هو عام فى الأشياء كلها ، ووجب أن يكون معنى الاستواء خاص بالعرش دون الأشياء كلها .
    وزعمت المعتزلة والجهمية والحرورية أن الله فى كل مكان فلزمهم أنه فى بطن مريم وفى الحشوش والأخلية ، وهذا خلاف الدين .  تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ".

الرد على المتكلمين فى تأويلهم لقول الجارية ( فى السماء )
    يقول المتكلمون فى قول النبى صلى الله عليه وسلم للجارية : " أين الله ؟ " فقالت " فى السماء" هو مصروف عن ظاهره ، وإنما اكتفى النبى صلى الله عليه وسلم بقولها ( فى السماء ) لأنه كان يكفى فى صدر البعثة بالنسبة للعامة : اعتقاد وجود الله تعالى ووحدانيته ، فعامل الجارية بما ألفته ، وأقرها على اعتقاد وجود الله ، وانفراده بالإلهية .
    ولما أشارت إلى السماء علم النبى صلى الله عليه وسلم أنها تعظم الله تعالى وتعتقد وحدانيته،  وتنفر من آلهة الأرض التى كانوا يعبدونها .
    لقد أراد القائل أن يجعل الظاهر المتبادر من قول الجارية هو : إن الله فى داخل السماء ، وأنها تحيط به ، وحاشا للنبى صلى الله عليه وسلم أن يقر هذا الظاهر ، وأن يشهد للجارية بالإيمان لأنها تعتقده .
    وإن تعجب فعجب قولهم : إنما اكتفى النبى صلى الله عليه وسلم بقولها : فى السماء ؛ لأنه كان يكفى فى صدر البعثة بالنسبة للعامة اعتقاد وجود الله ووحدانيته ، وهذا القول باطل لأنه من لوازمه :
أولا : أنهم جعلوا الاعتقاد على نوعين : اعتقاد العوام : وهو كاعتقاد الجارية أن الله فى السماء ، واعتقاد الخواص : وهو أن الله ليس فى السماء ، على العكس من اعتقاد العامة .  ولكن النبى صلى الله عليه وسلم أخفاه مع كونه الحق ، وسكت عنه ، ولم يوضحه للجارية حتى لا تفتن ، ولا شك فى بطلان ذلك .
ثانيا : ويلزم أيضا أنه فى أول البعثة كان الاعتقاد مغايرا لنهايتها ، وهذا كذب صريح ، فإننا نجزم أن اعتقاد الناس ومنهجهم فى الصدر الأول أفضل ممن جاء بعدهم  .
ثالثا : ويلزم من قولهم هذا أن أعلم الخلق بربه وانصحهم لأمته قد أخطأ عندما سأل الجارية " أين الله ؟ " وأنه كان يجب أن يسألها بما لا يوهم باطلا ، وهذا افتراء عظيم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
رابعا : ولازم قولهم أيضا : أننا لا نعرف أين معبودنا ! أهو فى السماء أم فى الأرض ؟ مادام أنه لا يسئل عنه بـ ( أين ) وهذا هدم لنصوص القرآن ، ودفع لكلام الله .
    أما الجارية فكانت أعلم بدلالة الألفاظ على معانيها من علماء الكلام الأشعرية ؛ لأنها تقصد العلو ، ولا تقصد بوجه من الوجوه أن السماء تحيط به كما زعموا .
    والتصريح بأنه تعالى فى السماء عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين :
1- إما أن تكون ( فى ) بمعنى ( على ) كما فى قوله تعالى : " وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ  " أى : على جذوع النخل ، وكقوله تعالى : " فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ " .
2- وإما أن يراد بالسماء : (العلو ) ، ولا يجوز الحمل على غيره .
    ومن ثم فإن مراد الجارية بقولها ( فى السماء ) هو علو الله تعالى على خلقه بذاته ، ولو لم يكن مرادها علو الله على خلقه لما سألها النبى صلى الله عليه وسلم بلفظ ( الأين ) ، ولو كان المقصود اعتقاد وحدانية الله تعالى لقال لها : هل تعتقدين أن الله واحد لاشريك له ؟ فعلم المراد بجوابها ، وأن معنى ( فى السماء ): العلو .
    والعجب قول أحدهم : " وماذا يضيرنا لو قلنا : إننا نؤمن بالله ، وبوجوده ، ولكنا لا ندرى أين هو؟ " وهذا كلام باطل ؛ لأن لازمه : رد النصوص الثابتة التى قطعت بأن الله على عرشه فى السماء .
    ومن لوازم قولهم : أن الله كلم عباده بما لا فائدة فيه ، ويكون القرآن والسنة مليئين بالحشو والألغاز الغامضة .
    وهل لو سألنا سائل (أين الله ) فأجبنا : ( فى السماء استوى على العرش ) هل نكون شبهنا الله ومثلناه بالمخلوق ؟! أم الحق عندهم هو قلنا : لا أدرى ، ولو تعطل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مدلوله ؟
    إن الله فطر الخلائق على أن يتوجهوا إلى السماء بالدعاء ؛ لأنه فى السماء فوق عرشه ، فهل بعد ذلك نحرم السؤال عن الله بـ ( أين )  وطلب العلو مفطور فى كل نفس .
    ومن العجب أيضا احتجاج هؤلاء المتكلمين بما روى عن يحيى بن معاذ الرازى أنه سئل : أين الله؟ فأجاب : بالمرصاد . فقال السائل : ليس عن هذا أسئلك . فقال يحيى : ما كان غير هذا فهو صفة المخلوق .
    فهل يحيى الرازى علم شيئا من صفات الله ، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلمها ؟
    أم أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوهم التشبيه بالمخلوق ، وأما كلام يحيى الرازى فهو الحق الذى لا تشوبه شائبة ؟!!
    ويلاحظ أن هذه الطريقة هى طريقة الجهمية والنفاة المعطلة من الأشعرية ، فلايريدون أن يثبتوا لله استواء يليق بجلاله ، ولا نزولا ، ولا مجيئا ، ولا غير ذلك من الصفات الثابتة فى الكتاب والسنة . قال تعالى :
" سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ . وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق