مقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد

الإيمان قول ، وعمل ..

يزيد بالطاعة ، وينقص بالمعصية ..

يزيد بالتفكر ، وينقص بالغفلة ..

يزيد بالتصديق والامتثال ، وينقص بالشك والإعراض ..

هيا نؤمن ساعة .. مدونة تزيدك إيمانا ..

بعلم نافع تتعلمه .. بعبرة تعتبر بها .. بسنة تمتثلها .. بآية تتدبرها .. بشبهة تمحوها ..

صفحاتها : روضة من رياض الجنة

تأنس فيها بذكر الله .. وترضى فيها بشرعه .. وتتدبر أمره ونهيه ..

اغتنم خيرها بالعمل بما فيها ، والدعوة إليه .

كان من دعاء ابن مسعود رضى الله عنه :

" اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها " .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .


الأحد، 29 مايو 2011

المطلب الثامن عشر : بدعة خلق القرآن


[المطلب الثامن عشر]
صفة الكلام وبدعة القول بخلق القرآن
·      عقيدة السلف فى صفة الكلام وتوحيد الله فيها  .

·        أقوال الناس فى صفة الكلام بين النفى والإثبات .

·        مناقشة الأشعرية فى صفة الكلام والرد عليهم .

·        مذهب الأشعرية لايمكن وصفه بالوسطية .

·        كيف ظهرت بدعة القول بخلق القرآن  .

·      رسالة المأمون فى خلق القرآن وما فيها من زور وبهتان .

·      حجة المأمون فى القول بخلق القرآن والرد عليه .

·      بطلان ادعاء تكفير علماء السلف للمعتزلة .

·      إحداث البدعة يفتح بابا لتوالى الابتداع .


صفة الكلام وبدعة القول بخلق القرآن
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
    فى هذا المطلب نتناول بإذن الله الحديث عن صفة الكلام وإثباتها لله عز وجل ، وما حدث للأمة الإسلامية بسبب المعتزلة لما هيمنوا على الخلافة ، أيام الخليفة المأمون بن هارون الرشيد، وألزموا الناس بخلق القرآن أو حملهم على السيف ، وذلك من خلال المحاور التالية :

عقيدة السلف فى صفة الكلام وتوحيد الله فيها

    يمكن بيان معتقد السلف الصالح فى صفة الكلام من خلال النقاط التالية :
أولا : أن الله يتكلم بالكيفية التى تليق بجلاله ، كما قال تعالى فى سائر أسمائه وصفاته وأفعاله : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " (الشورى : 11) ولا يلزم من إثبات صفة الكلام التشبيه والتجسيم ، بل أخبرنا الله تعالى أن بعض المخلوقات تتكلم دون جارحة لإخراج الحروف . قال تعالى : " الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " ( يس : 65) وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : " ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل " (البخارى) ولذلك فإن أصل قياس الخالق على المخلوق قياس فاسد لا يجوز .

ثانيا : أن الكلام صفة ذات ، والتكليم صفة فعل . وكونه من صفات الذات لأنه من لوازم الكمال ، والله تعالى له الكمال المطلق ، ولهذا ذم بنى إسرائيل لاتخاذهم عجلا لا يتكلم إلها من دون الله .     
والتكليم من صفات الأفعال ؛ لأن الله يتكلم بمشئيته ، فإن شاء كلم من شاء من خلقه .

ثالثا : أنه سبحانه يتكلم بحرف وصوت يسمع ، سمعه جبريل عليه السلام ، وسمعه موسى عليه السلام وسمعه محمد صلى الله عليه وسلم .
والأدلة كثيرة منها :
    قوله تعالى : " تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ " ( البقرة : 253)
    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعُد كما يسمعه من قَرُب: أنا الملك أنا الديان " ( صححه الألبانى )

    وقد تواترت الأدلة بما لا يدع مجالا للشك على ثبوت صفة الكلام لربنا عز وجل ، وأنه يتكلم إذا شاء بما يشاء وكيف يشاء ، وأنه يتكلم بكلام يسمعه من يشاء ، وأن القرآن الكريم بجميع حروفه ومعانيه نفس كلامه الذى تكلم به حقا ، لا هو من تأليف ملك ، ولا هو من تأليف بشر ، وليس ألفاظ القرآن ترجمة ترجم بها جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم  عما قام بالرب من المعنى من غير أن يتكلم به .

أقوال الناس فى صفة الكلام بين النفى والإثبات

1-   قول الفلاسفة : هو ما يفيض على النفوس من معانى ، ويقولون أن الله كلم موسى عليه السلام من سماء عقله ، أى : بكلام حدث فى نفسه لم يسمعه من خارج .

2-     قول المعتزلة : أنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه . وقولهم مبنى على أصلهم الأول حيث ينفون أوصاف الله تحت مسمى التوحيد ونفى التشبيه ، فعطلوا وصف الكلام عن الله ، وزعموا أن الذى تكلم به محمد صلى الله عليه وسلم ، ومحمد صلى الله عليه وسلم مخلوق ، فكلامه مخلوق .

3-    قول الكلابية والأشعرية : أنه معنى واحد قائم بذات الله لا يمكن سماعه ، وإن عُبِّر عنه بالعربية كان قرآنا ، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة .

4-   قول أئمة الحديث والسنة : مذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين هو أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، فهو المتكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من كلامه ، ليس مخلوقا منفصلا عنه ، بل هو صفة قائمة بذاته ، وهو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته، فلم يزل الله عز وجل متكلما إذا شاء، ومتى شاء ، وكيف شاء ، وهو يتكلم به بصوت يُسمَع .

مناقشة الأشعرية فى صفة الكلام والرد عليهم

    زعم الأشعرية أنهم هم أهل السنة والجماعة ، وأن مذهبهم وسط بين طريقى الإفراط من المعتزلة والتفريط من الحشوية ، ومرادهم بالحشوية : علماء السلف الصالح الذين أثبتوا الصفات على مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
    قال ابن حيدرة : " ومذهبنا هو الحق المبين ، وهو أن الله تعالى متكلم بكلام أزلى قديم كسائر صفاته ، وأن حقيقة الكلام أنه معنى قائم بالنفس ، وليس بحرف ولا صوت ، وإنما يستدل عليه بالحروف والأصوات " . 

    ولازم قولهم : أن الله لا يتكلم بصوت يسمع ، وإنما كلامه معنى واحد ، وإشارات مجملة يفهمها جبريل عليه السلام ويستوعبها بغير أن يسمعها ، ثم يفصلها بطريقته الخاصة إلى الأمر والنهى والخبر والاستخبار ، ويعبر عن ذلك باللغات المناسبة ؛ فإذا عبر عنه بالعربية كان قرآنا ،وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا .

    والذى دفعهم إلى ذلك هو قياس كلام الخالق على كلام المخلوق بقياس تمثيلى أو شمولى ، واعتقادهم أن الكلام لا يكون إلا بجارحة بها مخارج الحروف التى يصدر منها الكلام .

    ولذلك عددوا القيود والشروط السلبية ، حتى يثبتوا لله صفة الكلام وهم كارهون .
    وأبرز دليل يستدلون به على أن كلام الله هو الكلام النفسى ، هو قول الأخطل النصرانى :
إن الكلام لفى الفؤاد وإنما      جعل اللسان على الفؤاد دليلا

    وهذا استدلال فاسد ، ولا يجوز الاحتجاج به لكونه بعد عصر الاحتجاج على لغة العرب ، كما أن النصارى قد ضلوا فى معنى الكلام ، وزعموا أن عيسى عليه السلام نفس كلمة الله ، واتحد اللاهوت بالناسوت ، فاختلط شئ من الإله بشئ من الناس ! فكيف يصح الاستدلال على حقيقة كلام الله ، بقول نصرانى قد ضل فى معنى الكلام ؟
    ولازم قولهم أن الأخرس يسمى متكلما لقيام الكلام بقلبه ، وإن لم ينطق به ، ولم يسمع منه ، ولزم أن لا يكون الذى فى المصحف كلام الله ، ولكن عبارة عنه ، كما لو أشار أخرس إلى شخص بإشارة فهم بها مقصوده ، فكتب ذلك الشخص عبارته عن ذلك المعنى ؛ فعندهم أن جبريل فهم من الله عز وجل معنى قائما بنفسه ، ولم يسمع منه حرفا ولا صوتا ، ثم عبر عنه بلغة العرب ، فهو الذى أحدث نظم القرآن .

    ويقال لمن قال إنه معنى واحد : هل سمع موسى عليه السلام جميع الكلام أو بعضه ؟ 
فإن قال : جميعه ، فهو ظاهر الفساد ؛ لأن كلمات الله لا تنفد .
وإن قال : بعضه ، فقد خالف قوله بأنه معنى واحد .

    وأما من قال بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس ؛ فيُرَد عليه بحديث النبى r : " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس " (مسلم) واتفق العلماء على أن المصلى إذا تكلم فى الصلاة عامدا بطلت صلاته ، واتفقوا على أن ما يقوم بالقلب من أمور دنيوية لا يبطل الصلاة ، فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام . 

   وقال النبى صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز لأمتى ما حدثت به أنفسها ، ما لم يتكلموا أو يعملوا به " (البخارى) ففرق بين حديث النفس ، وبين الكلام .

    وقال تعالى : "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ " (الإسراء : 88) أفَتراه سبحانه يقول : لا يأتون بمثل ما نفسى مما لم يسمعوه ولم يعرفوه ؟ ومعلوم أن ما فى نفس الله لا حيلة للوصول إليه ؟  

 فلما عجزوا عن الإتيان بسورة مثله ، تبين إعجازه من جهة نظمه ومعناه ، وأنه من عند الله ، وإلى هذا وقعت الإشارة  بالحروف المقطعة فى أوائل السور، تنبيها للعرب أن هذا الرسول الكريم لم يأتكم بما لا تعرفونه ، بل خاطبكم بلسانكم .

مذهب الأشعرية لايمكن وصفه بالوسطية

    لاشك أن من قال إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى ، وأن المتلو المكتوب المسموع من القارئ حكاية كلام الله وهو مخلوق ، فقد قال بخلق القرآن وهو لا يشعر، فأى وسطية واعتدال فى القول بخلق القرآن ، وقد تبين أن حقيقة مذهبهم : تشبيه الله بالأخرس الأبكم، الذى يعبر عن مراده الداخلى بإشارات يفهم منها المقصود لعدم قدرته على الكلام ، سبحانه وتعالى عن وصفهم .

كيف ظهرت بدعة القول بخلق القرآن

    تأصلت فكرة الجهم بن صفوان عند المعتزلة فى استقلال العقل بإثبات الصفات أو نفيها ، فقاموا بتعطيل النصوص محتجين بأن إثباتها يدل على التشبيه والمحال ، ثم  استفحل أمرهم ، وكثر عددهم ، وتولوا المناصب القيادية زمن الخلافة العباسية .

    وفى بداية القرن الثالث الهجرى تصادق المأمون بن هارون قبل توليه الخلافة ، مع بشر بن غياث المُرَيِّسى ، أحد دعاة المعتزلة من أصل يهودى ، وكان عالم الجهمية فى عصره ، فمقته أهل العلم ، وناظروه ، وكفروه .

    واختلط المأمون أيضا برجل يقال له أحمد بن أبى دؤاد ، وكان من أشد المتعصبين للمذهب الاعتزالى ، وقد أشار على المأمون أن يكتب على سترة الكعبة : ليس كمثله شئ وهو العزيز الحكيم بدلا من قوله تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"( الشورى : 11) لنفى وصف الله بالسمع والبصر .

    فلما قرب المأمون هؤلاء الرجال من المعتزلة ، أقنعوه ببدعتهم ، ونصحوه أن يلزم الناس أن يقولوا بقول المعتزلة إرضاء لربهم وصلاحا لدينهم بزعمهم ، ففرض المأمون على الناس بدعة تعطيل الصفات ، والقول بخلق القرآن ، واستخدم قوة الدولة فى إلزام الناس بتلك البدعة، ولم تعد المسألة كلاما فاسدا يطوف على ألسنة الناس بين مستحسن ومنكر ؛ بل أصبح الأمر خطرا داهما يهدد المسلمين فى كل مكان ، وانقسم الناس إلى فريقين :

الفريق الأول : أهل القوة والمكانة أتباع الخليفة ، يوافقونه على رأى المعتزلة ، ويعتقدون أن القرآن مخلوق ، ومن قال بغير قولهم ، فهو عندهم كافر مشبه يستوجب القتل .

الفريق الثانى : فريق مستضعف يمثلهم علماء أهل السنة وعامة الناس من الضعفاء وغيرهم . وهؤلاء يقولون بأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، ويؤمنون بصفات الله من غير تمثيل ولا تكييف ومن غير تعطيل ولا تحريف
  
   واشتدت المواجهة بين الفريقين ، ولم يبق أحد من فقيه ، ولا محدث، ولا مؤذن ، ولا معلم إلا أخذ بالمحنة ، وهرب كثيرا من الناس فرارا بدينهم ، وملئت السجون ، ومنع العلماء من أصحاب مالك والشافعى وأحمد من تبليغ العلم فى المساجد ، وكتب على أبواب المساجد : لا إله إلا الله رب القرآن وخالقه .

رسالة المأمون فى خلق القرآن وما فيها من زور وبهتان

    أوجب الخليفة على كل مسلم أن  ينفى عن الله صفة الكلام ، ويقر بخلق القرآن ، وقد نصر الله سنته بالإمام أحمد بن حنبل ، حتى قيل : أبو بكر ليوم الردة ، وعمر ليوم السقيفة ، وأحمد ليوم البدعة .

    بدأت المحنة الحقيقية عام 218ه عندما أرسل المأمون كتابه الشهير إلى إسحاق بن إبراهيم والى الخليفة على بغداد ، يلزم الناس فيه أن يقروا بخلق القرآن ، فجاء فيه :
    " أما بعد فإن حق الله على أئمة المسلمين وخلفائهم الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم ، ومواريث النبوة التي أورثهم ، وأثر العلم الذي استودعهم ، والعمل بالحق في رعيتهم، والتشمير لطاعة الله فيهم"   .

    ومن المعلوم أن الاجتهاد المحمود ، هو الاجتهاد لخدمة دين الله بعد تقديم النصوص ، فلا اجتهاد مع نص، لكن الاجتهاد الذى دعا إليه المأمون اجتهاد هدم به عقيدة أهل السنة ، وهو يظن أنه يحسن صنعا . 
ثم قال :
    "واللهَ يسأل أمير المؤمنين أن يوفقه لعزيمة الرشد وصريمته ، والإقساط فيما ولاه الله من رعيته برحمته ومنته .

     وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة - ممن لا نظر له ولا روية، ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته، والاستضاءة بنور العلم وبرهانه في جميع الأقطار والآفاق ـ أهل جهالة بالله وعمى عنه وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به، ونكوب عن واضحات أعلامه وواجب سبيله، وقصور أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه، لضعف آرائهم ونقص عقولهم، وجفائهم عن التفكير والتذكر."

    إن أهل الجهالة والعمى هم الذين أعرضوا عن كتاب الله وسنة رسوله ، وارتضوا أحكام العقول بديلا .  ثم بين المأمون السبب فى وصفه لهم بالجهالة والضلالة فقال :
    "وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى ، وبين ما أنزل من القرآن ، فأطبقوا مجتمعين ، واتفقوا غير متعاجمين ، على أنه قديم أول، لم يخلقه الله ويحدثه ويخترعه ..."

    ثم قال المأمون يصف علماء السلف بأن الله أعماهم وأصم أبصارهم :
    " وقد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ، ودرسوا ما فيه ، أولئك الذين أصمهم الله وأعمى أبصارهم

ثم قال يصفهم بأنهم شر الأمة :
   "فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ، ورؤوس الضلالة ، المنقوصين من التوحيد حظا ، والمبخوسون من الإيمان نصيبا ، وأوعبة الجهالة ، وأعلام الكذب ، ولسان إبليس الناطق فى أوليائه" . 

    انظر مدى تمسك المأمون بمذهب المعتزلة ؟ وكيف أسهمت بطانة السوء من المعتزلة فى إضلال الخليفة ، حتى صار يعتبر مخالفيه من السلف الصالح هم شر الأمة ورؤوس الضلالة !!

حجة المأمون فى القول بخلق القرآن والرد عليه

    لما قرر المعتزلة بعقولهم أن القرآن مخلوق ، خلقه الله كما خلق سائر الأشياء ، وجدوا أن عامة الناس لن يصدقوا كلامهم لمخالفته صريح القرآن ، ولن يعتقدوا فى كلامهم إلا بدليل من قرآن وسنة ، فنظروا فى كتاب الله ليجدوا دليلا يقوى آراءهم ، وهم فى حقيقة الأمر يضربون به عرض الحائط ، ومن ذلك ما قاله المأمون فى رسالته :
    " وقد قال الله عز وجل في محكم كتابه : " إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " (الزخرف:3) فكل ما جعله الله فقد خلقه. "
    وهذا كلام باطل يدل على جهلهم بكتاب الله ولغة العرب ، لأن (جعل) فى الآية ليست بمعنى (خلق) ، فلفظ (جعل) قد يضاف إلى الله  عزوجل، وقد يضاف إلى المخلوق، فإذا أضيف إلى الله فهو على معنيين :

المعنى الأول: هو المعنى الكوني . ويعني الخلق والتقدير ، والتكوين والتدبير ، الذى يقع لا محالة ، كقول الله تعالى: " أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا . وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا . وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (النبأ : 6-8)
 
المعنى الثاني: هو المعنى الشرعي الديني ، ومعنى (جعل) هنا : التشريع ، ووضع التكليف الدينى الذى يتضمن أحكام المكلفين ، وشريعة المسلمين ، وهذا قد يقع وقد لا يقع ، كقول الله تعالى : "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا " (المائدة : 48) .

    ومن هذا المعنى الشرعي ما ورد في قوله تعالى: " إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " (الزخرف:3)  أي أنزل كلامه وشريعته بلغة العرب . وقد بين الله سبحانه السبب فى ذلك فقال : " وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ " (الزخرف:44)

    وقد خلط المأمون بين الجعل الكونى ، والجعل الشرعى ، وأن كل ما جعله الله فقد خلقه .

   وكذلك (جعل) إذا تعدت إلى مفعول واحد كانت بمعنى (خلق) كما في قوله: " وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ " (الأنعام:1) . وإذا تعدت إلى مفعولين لم تكن بمعنى (خلق) كقول الله تعالى: " وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ " (البقرة:224) وكذلك قوله : " إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا " (الزخرف:3) فإنها تعدت إلى مفعولين .

بطلان ادعاء تكفير السلف للمعتزلة

    زعم الخليفة المأمون فى رسالته أن أهل السنة والجماعة يكفرون المعتزلة ، وهذا زعم باطل ، فهم لا يكفرون إلا من كذب منهم بآيات الكتاب صراحة ، أو قامت عليه البينة فى أن قوله تكذيب لكلام الله ، وأصر على ما هو فيه ، ولذلك لما حمل الإمام أحمد من دار الخلافة بعد أن جلدوه ، وحضرت صلاة الظهر صلى معهم ولم يكفرهم فيما اعتقدوه ؛ لأنه يعلم أنهم أهل جهالة بالله .

إحداث البدعة يفتح الباب لتوالى الابتداع

    أمر المأمون واليه بامتحان العلماء فى تلك البدعة ، فقال متهما إياهم فى صدقهم وشهادتهم:
    " وهم أحق من يتهم في صدقه وتطرح شهادته، ولا يوثق بقوله ولا عمله، فإنه لا عمل إلا بعد يقين، ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام وإخلاص التوحيد ( يقصد توحيد المعتزلة ) .

    ومن عمي عن رشده وحظه من الإيمان بالله وبتوحيده ، كان عما سوى ذلك من عمله ، والقصد في شهادته ، أعمى وأضل سبيلاً .

    فاجمع من بحضرتك من القضاة ، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون، وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق الله القرآن وإحداثه .

    وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ، ولا واثق فيما قلده الله واستحفظه من أمور رعيته ، بمن لا يوثق بدينه ، وخلوص توحيده ويقينه .

    فإذا أقروا بذلك ، ووافقوا أمير المؤمنين فيه ، وكانوا على سبيل الهدى والنجاة ، فمرهم بأن يسألوا من يحضرهم عن علمهم في القرآن، وأن يتركوا إثبات شهادة من لم يقر بأنه مخلوق محدث والامتناع من توقيعها عندهم ". 

     ولما ولَّى الخليفة المأمون بشر بن الوليد الكندى أمور القضاء ، بعد أن أقر بمذهب المعتزلة فى خلق القرآن ، كان بشر إذا جاءه الشاهد سأله عن كلام الله وخلق القرآن ، هل الله يتكلم أم لا؟ فإن قال بأنه يتكلم ، رَدّ شهادته ، وإن قال: لا يتكلم ، قبل شهادته .

    إن إحداث البدعة فى الدين يفتح بابا لتوالى مسلسل الابتداع وهدم النصوص ، فأى دليل يدل على أن الشاهد عند أداء الشهادة أمام القاضى ، لابد أن يمتحن فى خلق القرآن ؟ أليست تلك بدعة بنيت على بدعة كبرى لا عهد للمسلمين بها ؟ 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

المطلب التاسع عشر : مناظرة الإمام أحمد


[المطلب التاسع عشر]
مناظرة الإمام أحمد لأهل البدعة

·      مناظرة علماء السنة للمبتدعة فى خلق القرآن .

·        التلبيس والخلط بين القدر المشترك والقدر الفارق .

·        ثبات الإمام أحمد على إثبات توحيد الصفات .

·        استعانة أهل السنة بربهم فى محاربة البدعة .

·        مناظرة الإمام أحمد لأهل البدعة بين يدى المعتصم .

·        النصوص التى استدل بها المعطلة على خلق القرآن .

·        انقطاع حجة المعتزلة ويأس الخليفة المعتصم .

·        المعتصم يأمر بجلد الإمام أحمد لإثباته صفات الله .

·        ندم أهل العلم الذين قالوا بخلق القرآن تقية .

·        المعتصم يندم على تعذيب الإمام أحمد ويفتح عمورية .

·        قصة أحمد بن نصر الخزاعى فى إثبات الصفات .

·        نصرة السنة وانتقام الله من دعاة البدعة .

·        الفرق بين اعتقاد الأشعرى وعقيدة الأشعرية .


مناظرة الإمام أحمد لأهل البدعة
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
    فى هذا المطلب نتناول بإذن الله الحديث عن البدعة الكبرى ، وكيف كان علماء السلف يناظرون المبتدعة مهما علت سطوتهم ، وذلك من خلال المحاور التالية :   

مناظرة علماء السنة للمبتدعة فى خلق القرآن

    كتب المأمون بن هارون لنائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم ، يأمره أن يجمع من بحضرته من الفقهاء ، والمحدثين ، والقضاة ، وأهل العلم ، وأن يقرأ كتاب المأمون عليهم مرارا ، حتى يدركوا مراد الخليفة منهم ، ويبدأ فى امتحانهم ، والكشف عن اعتقادهم ، وكان من أبرزهم أحمد بن حنبل ، وبشر بن الوليد الكندى ، ومحمد بن نوح ، وعلى بن أبى مقاتل ، وغيرهم .

    فلما جمعهم  قرأ عليهم الكتاب مرتين ، ثم سأل بشر بن الوليد عن القرآن ، فقال : القرآن كلام الله . قال إسحاق بن إبراهيم : أمخلوق هو ؟ قال بشر : " اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ " ( الرعد:16) قال إسحاق : أليس القرآن شئ ؟ قال بشر: هو شئ . قال إسحاق : فمخلوق هو ؟ قال : ليس بخالق. قال إسحاق : ليس أسألك عن هذا . قال : بشر : لا أحسن غير ما قلت . 

    أراد بشر أن يحيد عن الجواب الذى يريدونه ليتخلص من بطش الخليفة ، فهو يبطن اعتقاد السلف ، فأخذ إسحاق رقعة مكتوب فيها إقرار ، سيوقع عليه كل من لا يقر بخلق القرآن ، فقرأها على بشر ، وكان فيها : " أشهد أن الله واحد أحد فرد صمد لم يكن قبله شئ ولا بعده شئ ، ولا يشبهه شئ من خلقه فى معنى من المعانى ولا وجه من الوجوه " وقال له : أتـشهد على ما فى هذه الرقعة ؟ قال بشر : نعم . فقال إسحاق لكاتبه : اكتب ما قال .

    ثم توجه الوالى إلى على بن مقاتل ، وأبى حسان الزيادى وسألهما عن القرآن ، فقالا القرآن كلام الله ، والله خالق كل شئ ، فأشهدهما على ما فى الرقعة فشهدا ، وكتب جوابهما .

    ثم جاء دور الإمام أحمد ، وهو صريح فى دلالته ومقولته ، لا يلمح ولا يلوح ، ظاهره ينبئ عن باطنه ، لا يستخدم الحيدة ولا التأويل ، فقال له إبراهيم : ما تقول قى القرآن ؟ قال أحمد : هو كلام الله  . قال إسحاق : أمخلوق هو ؟ قال : هو كلام الله ولا أزيد على ذلك . 

قال إسحاق : أتوافق على الرقعة التى فيها : " أشهد أن الله واحد أحد فرد صمد لم يكن قبله شئ ولا بعده شئ، ولا يشبهه شئ من خلقه فى معنى من المعانى ولا وجه من الوجوه "

قال الإمام أحمد : أقول: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" ( الشورى :11) ورفض ما فى الرقعة لاشتمالها على حق وباطل. 

قال أحد الحاضرين من المعتزلة لإسحاق : ياأمير، إنه يقول سميع بأذن بصير بعين . قال إسحاق لأحمد : ماذا أردت بقولك وهو السميع البصير ؟ قال أحمد مفحما لهم : أردت منها ما أراده الله ورسوله .

التلبيس والخلط بين القدر المشترك والقدر الفارق

    العبارة التى أشهد الوالى عليها العلماء ؛ عبارة مرنة ، ظاهرها حق ، وفى داخلها إقرار ضمنى بمذهب المعتزلة لأن معنى : "ولا يشبهه شئ من خلقه فى معنى من المعانى ولا وجه من الوجوه " يلزم منها عندهم نفى الصفات عن الله مطلقا ؛ كالسمع والبصر والكلام .

    وقد التزم الإمام أحمد بمنهج أهل السنة ؛ فأمسك عن هذه العبارة ، وأثبت القدر الفارق ولم يمثل ، وأثبت القدر المشترك ولم يعطل .

    ثم اختبر الوالى سائر العلماء ، وكتب إلى الخليفة بما كان منهم ، فمكث القوم تسعة أيام ، ثم دعا بهم ، وقد ورد الكتاب الثانى للمأمون ، يأمره بإخلاء سبيل من أقر بخلق القرآن ، فجاء فيه: 
" فإن قال إن القرآن مخلوق ، فأشهر أمره واكشفه ، وإلا فاضرب عنقه ، وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه إن شاء الله
وسمى الخليفة فى خطابه رجلا رجلا ، ثم أمر بأن يُوثَّق الباقون ممن لم يذكر أسماءهم فقال : 
" فاحملهم أجمعين موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين ... لينصحهم أمير المؤمنين ، فإن لم يرجعوا ويتوبوا ، حملهم جميعا على السيف إن شاء الله ، ولا قوة إلا بالله " .

   عند ذلك أدرك العلماء أن الأمر شديد ، وأن الخليفة فوض نائبه فى بغداد بقطع الرقاب ، فأجابوا إلى القول بخلق القرآن مكرهين متأولين قوله تعالى : "إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ " (النحل : 106) ولم يمتنع إلا أربعة نفر ، فأمر باعتقالهم وشدهم فى الحديد ، ثم أعاد امتحانهم فى اليوم الثانى ، فأجاب اثنان ، وأصر الإمام أحمد بن حنبل ، ومحمد بن نوح على قولهما فى نفى خلق القرآن ، فزاد إسحاق من قيودهما ، ووضعهما فى السجن تمهيدا  لترحيلهما إلى المأمون .

ثبات الإمام أحمد على إثبات توحيد الصفات

    كان إسحاق قد كتب للخليفة كلاما خاصا عن الإمام أحمد ، يلفت نظره إلى مكانته فى قلوب الأمة ، ثم أخرج أحمد ومحمد بن نوح من سجن بغداد ، وجمعهما فى سلسة واحدة على بعير واحد متعادلين ، فى صورة مزرية، متوجهين إلى الخليفة المأمون ، وكان بطرسوس بالشام فى طريقه لغزو الروم . 

وفى الطريق قيل لأحمد : ألا ترى الباطل كيف ظهر على الحق ؟ قال : 
" كلا إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل قلوب الرجال من الهدى إلى الضلال ، وقلوبنا بعد لازمة للحق". 

وفى الطريق جاءه أعرابى عابد وقال له : " ياهذا ، إنك وافد الناس اليوم ، فلا تكن شؤما عليهم ، وإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه ، فيجيبوا ، فتحمل أوزار الناس إلى يوم القيامة ، وإن كنت تحب الله فاصبر ، فإن ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل ، وإنك إن لم تقتل تمت ، وإن عشت عشت حميدا " . 
قال أحمد : " كان كلامه مما قوى عزمى على ما أنا فيه من رد الذى يدعوننى إليه " .

وانطلق السفيران عن مذهب أهل السنة والجماعة يجران قيودهما ، ولما اقتربا من معسكر الخليفة قال له محمد بن نوح : " ياأحمد إنى موصيك بوصية ؛ إن دعانا هذا الرجل أن نقول القرآن مخلوق فلا تقل ، وإن أنا قلت فلا تركن إلىّ ، وتأول قوله تعالى : " وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ " ( هود :113) .

    ثم جاءه سيّاف المأمون يبكى ويقول : " يعز علىّ ياأبا عبد الله ، إن المأمون قد سَلّ سيفا لم يسلله من قبل ، وأقسم بقرابته من رسول الله r، لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف "  فرفع أحمد بصره إلى السماء ، وجثا على ركبتيه ، ودعا ربه قائلا : " سيدى ومولاى ، غر حلمك هذا الفاجر، حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل ، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته ". 

فما إن انتهى من دعائه حتى طار الخبر فى كل مكان، فى الثلث الأخير من الليل ، مات المأمون ، ودخل رجل يبشرهم قائلا : البشرى قد هلك الرجل . 

استعانة أهل السنة بربهم فى محاربة البدعة

    مات المأمون غير مأسوف عليه ، وقد تأكد للعامة قبل الخاصة صدق ما عليه إمام أهل السنة ، وقويت مكانته فى القلوب ، وتعلقت به النفوس . وأمر المعتصم برد السجينين إلى بغداد، حتى تهدأ الأمور فى الدولة ، وفى الطريق مات محمد بن نوح وصلى عليه الإمام أحمد ودفنه ، وكان بقول عنه : 
" ما رأيت أحدا على حداثة سنة وقلة علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح ".

وبقى الإمام أحمد وحيدا فى بغداد ، والقيود فى يديه ورجليه طيلة ثمانية وعشرين شهرا ، يؤم السجناء فى سجن بغداد ، ويعلمهم كتاب الله وسنة  رسوله صلى الله عليه وسلم .

    قال له عمه إسحاق بن حنبل : يابنى لم لا تجيبهم إلى القول بخلق القرآن تقية ؟ 
فقال أحمد: " إذا سكت العالم تقية ، والجاهل يجهل ، فمتى يظهر الحق ؟ إنى لا أبالى بالحبس ، فما هو ومنزلى إلا واحد ، ولا قتلا بالسيف ، إنما أخاف فتنة السوط ، وأخاف أن لا اصبر فأوافقهم ". 
قال أحد السجناء : " لا عليك ياأبا عبد الله ، فما هما إلا سوطان ، ثم لا تدرى أين يقع الباقى ؟ "

    وبعد أن تلاحقت عليه ثلاث سنوات ، وهو فى أغلاله حولوه من السجن إلى دار إسحاق بن إبراهيم ؛ ليتداولوه على انفراد قبل أن يدخلوه على الخليفة ، فناظروه وغلبهم فى الحجة ، فقالوا : ياأحمد إنها والله نفسك؛ إنه لا يقتلك بالسيف ، إنه قد آثر إن لم تجبه يضربك ، أو يلقيك فى مكان لا ترى فيه الشمس ، فلم يعبأ بهم وقال : " يأتونى بآية من كتاب الله وأنا أجيبهم " .

مناظرة الإمام أحمد لأهل البدعة بين يدى المعتصم

    لما أدخلوا الإمام أحمد على الخليفة المعتصم ، أجلسه المعتصم بجواره وقد أثقلته القيود 
قال أحمد : تأذن لى فى الكلام يا أمير المؤمنين ؟ 
قال : تكلم . فقلت إلى ما دعا ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ 
قال المعتصم : إلى شهادة أن لا إله إلا الله . 
فقلت له : فأنا أشهد أن لا إله إلا الله . 
قال المعتصم : لولا أنى وجدتك فى يد أخى المأمون ما تعرضت لك . 
ثم قال لعبد الرحمن بن إسحاق : ناظره يا عبد الرحمن . 
فقال : ما تقول فى القرآن ؟ 
قال أحمد : " ما تقول فى علم الله ؟
فسكت عبد الرحمن ، قال أحمد : "القرآن من علم الله ، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله ." فقالت حاشية الخليفة : ياأمير المؤمنين كفرك وكفرنا . قال عبد الرحمن : كان الله ولا قرآن . 
قال أحمد : " كان الله ولا علم " ، فسكت عبد الرحمن .
    رد الإمام أحمد صفة الكلام باعتبارها من صفات الأفعال ، إلى صفة العلم باعتبارها صفة من صفات الذات ، وهذا يدل على سعة علمه وفهمه رحمه الله .
   
النصوص التى استدل بها المعطلة على خلق القرآن

    قال بعض الحاضرين للإمام أحمد : أليس الله قد قال : " اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ " ( الرعد:16) القرآن أليس هو شئ ؟ 
قال أحمد : " قال الله : " تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا " ( الأحقاف : 25) فهل دمرت إلا ما أراد الله ؟ قد أتت تلك الريح على أشياء لم تدمرها ، كمنازلهم ، ومساكنهم ، والجبال التى بحضرتهم ، فأتت عليها تلك الريح ولم تدمرها ، وبالرغم من ذلك قال : " تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ " .
    وقد ذكر الله كلامه فى غير موضع من القرآن ، فسماه كلاما ، ولم يسمه خلقا  ، قال تعالى :
" وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ " (التوبة : 6) .

    قال بعض الحاضرين : أليس قد قال الله : " يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ " ( الأنبياء :2) أيكون محدثا إلا مخلوقا ؟ 

قال أحمد رحمه الله : " قال تعالى : " ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ" (ص:1) والذكر هو القرآن ، وتلك ليس فيها ألف ولا لام ، فالمراد هو ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم يجرى عليه الحدث ، أما ذكر الله إذا ورد لا يجرى عليه الحدث ، قال تعالى : "وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ" ( العنكبوت : 45) فعلم النبى صلى الله عليه وسلم وكلامه محدث مخلوق.
.

    والشيئان بقياس الأولى إذا اجتمعا فى اسم يجمعهما ، فكان أحدهما أعلى من الآخر ، ثم جرى عليهما اسم مدح ، كان أعلاهما أولى بالمدح ، وإن جرى عليهما اسم ذم ، فأدناهما أولى به وفى الآية جمع بين ذكرين : ذكر الله وذكر نبيه صلى الله عليه وسلم فأما ذكر الله إذا انفرد ، لم يجر عليه الحدث. 

    فذكر بعض الحاضرين حديث عمران بن حصين محرفا له ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله خلق الذكر . قال أحمد : " هذا خطأ ، حدثنا غير واحد : إن الله كتب الذكر " .

انقطاع حجة المعتزلة ويأس الخليفة المعتصم 

    وركب الخليفة من الهم ما ركبه ، فقاموا وفضوا المجلس ، وردوا الإمام أحمد إلى السجن ، وكان ذلك فى رمضان ، فذهب إليه رجلان من أصحاب أحمد بن أبى دؤاد يناظرانه ، ويلزمانه القول بخلق القرآن ، حتى إذا كان وقت الإفطار جئ بالطعام ، فلم يستطع الإمام أن يفطر من شدة الإرهاق . 

    وفى اليوم التالى أعيد أحمد إلى مجلس الخليفة ، وأعادوا المناظرة ، فإذا جاءوا بكلام ليس فى كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال : ما أدرى ما هذا . قال قائل منهم : ياأمير المؤمنين إذا توجهت له الحجة علينا ثبت ، وإن ألزمناه بشئ يقول : ما أدرى ماهذا ؟

    قال الإمام أحمد : " لقد احتجوا علىّ بشئ لا يقوى قلبى ، ولاينطق لسانى أن أحكيه ، أنكروا الآثار ! وما ظننتهم على هذا حتى سمعته منهم ، فاحتججت عليهم بقوله تعالى : " إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا " (مريم :42) فقالوا: شبّه ياأمير المؤمنين "  فهم يعتقدون أن إثبات الصفات تشبيه وتمثيل .
    ولم يزالوا به من الصباح حتى الظهر ، وهو صامد بقوة الله وتوفيقه ، حتى غضب المعتصم وقام من المجلس ، فردوه إلى سجنه وقيوده مرة أخرى .

المعتصم يأمر بجلد الإمام أحمد لإثباته صفات الله 

    وفى الصباح أدخل الإمام أحمد على الخليفة ، ثم قال للحاضرين : ناظروه ، فناظروه وحجة الإمام تدحض شبهاتهم ، حتى ضاق به المعتصم ، فوسوس إليه الخبيث بن أبى دؤاد قائلا : إن تركته سيقول الناس : إنك تركت مذهب المأمون ، وأنه غلب على خليفتين .

     فنادى الخليفة :أحضروا العقابين والسياط ، والعقابان هما خشبتان منصوبتان ، يعلق فيهما المجلود من يديه ، فأتَوا بالإمام أحمد ، وأوقفوه على كرسى ، وهمس إليه أحدهم ، وأمره أن يأخذ بيديه بأى الخشبتين ، ذلك أن المجلود إذا علق بالحبل تخلعت يداه ، فأشفق عليه الجلاد ، وأراده أن يمسك بيديه فى الخشبتين ، فلم يفهم الإمام ما قال ، وعلق بالخشبتين ، وصار بينه وبين الأرض مقدار قبضة . 

    قال المعتصم : اضربوه ، فلما ضرب سوطا : قال الإمام : بسم الله والحمد لله ، فلما ضرب الثانى قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فلما ضرب الثالث قال : القرآن كلام الله غير مخلوق، فلما ضرب الرابع قال : قل يصيبنا إلا ما كتب الله لنا

    وقد اجتمع الناس وكبار المحدثين فى الوقت الذى يضرب فيه الإمام ، وهم فى ثورة وغضب ، قلوبهم معلقة بين الدعاء بالتثبيت للإمام ، أو دعاء على الظالمين ، وقد ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام إلى باب المعتصم يحجبه الحرس ، وهو يرفع صوته بين الناس ويقول: أيضرب سيدنا ومولانا ؟ أيضرب سيدنا ومولانا ؟ 

    ولم يزل الإمام قائما بين العقابين والسياط تقطع جسده ، قام المعتصم وقال له : ياأحمد أجبنى إلى القول بخلق القرآن ، وأنا أطلق عنك بيدى ، فقال : آتونى شيئا من كتاب الله وأنا أجيبكم ، فأعادوا الضرب ، كل جلاد يضرب سوطين وينصرف ، حتى ذهب وعيه ، وضرب ثمانين سوطا ضربا مبرحا شديدا ، حتى سال دمه ، وتقطع لحمه ، فأتوه بشراب ليفطر وكان صائما فأبى .

ندم أهل العلم الذين قالوا بخلق القرآن تقية

    وكان الفقهاء الكبار قد أجابوا إلى القول بخلق القرآن تقية بين يدى المأمون ، ومنهم أعلام المحدثين كيحيى بن معين ، وزهير بن حرب ، وأبو نصر التمار ، وهؤلاء كانوا فى مرتبة عليا عند الإمام ، ولم يكن يتوقع منهم سرعة الإجابة إلى القول بخلق القرآن ، فكان يقول :
لو كانوا صبروا وقاموا لله عز وجل ، لانقطع الأمر وخافهم الرجل ، ولكن لما أجابوا وهم عين البلد ، اجترأ على غيرهم . 

    فندم كثير منهم على عدم الثبات على الحق ، وحلف أحمد ألا يكلم أحدا ممن أجاب منهم حتى يلقى الله ، فجاء يحيى بن معين ، فدخل على أحمد وهو مريض ، فسلم فلم يرد عليه السلام، فما زال يعتذر ويقول حديث عمار ، وقول الله تعالى : "إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ"  (النحل :106) فقلب أحمد وجهه إلى الجانب الآخر ، فخرج يحيى وجلس على باب الإمام ، وقال لمن خرج بعده : إيش قال أحمد بعدى ؟ قال : يقول : " يحتج بحديث عمار ، وحديث عمار قال فيه : مررت بالمشركين وهم يسبونك ، فنهيتهم فضربونى ، وأنتم قيل لكم نريد أن نضربكم فاستجبتم !"

   يقصد الإمام أنه لا وجه للشبه بين حديث عمار وبين ما فعلوه ؛ لأن المشركين عذبوا عمارا وغطسوه فى بئر ميمون ، حتى كاد يموت وقالوا : اكفر بمحمد ، فتابعهم على ذلك دون أن يشعر وقلبه كاره ، وهم قد استجابوا بمجرد التهديد . 
    فقال يحيى : مررها يا أحمد غفر الله لك ، فما رأيت والله تحت أديم السماء أفقه فى دين الله منك . يقصد : مرر هذه السقطة التى وقعنا فيها ، وسامحنا عليها .

المعتصم يندم على تعذيب أحمد ويفتح عمورية 

    ندم المعتصم على جلده للإمام أحمد ، وأرسل إليه من يتابع خبر معافاته من آثار ما فعل به، حتى صح الإمام أحمد وبرئ ، وبقيت إبهاماه منخلعتين ، يضربان عليه فى البرد ، فيسخن له الماء .

    وقد جعل الإمام أحمد المعتصم وكل من آذاه فى حل من ذنبه إلا أهل البدعة من المعتزلة ، وكان يقول : ما ينفعك أن يعذب المسلم بسببك ، ويتلو قوله تعالى : " وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ " (النور :22) وكانت الصلة بين الإمام والخليفة طيبة إلى وقت وفاته ، وكان من بركة عفو الإمام أن فتح الخليفة عمورية أعظم بلاد الروم .

قصة أحمد بن نصر الخزاعى فى إثبات الصفات 

    توفى المعتصم ، وولى الخلافة من بعده ابنه الواثق ، وكان عنيدا مصرا على مذهب المعتزلة الخبيث ، وانتشرت الفواحش والمعاصى بين حاشيته ، فاجتمع ألوف من أهل بغداد على عالم من علماء السلف هو : أحمد بن نصر الخزاعى ، تعاهدوا فيما بينهم أن يعيدوا الأمة إلى مذهب السنة ، فبايعوا أحمد بن نصر على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وتواعدوا فى ليلة للاجتماع والخروج على الواثق ، فوشى بهم بعض المنافقين ، فقبضوا على أحمد بن نصر وأتباعه ، وأحضر بين يدى الواثق .
فقال له : ما تقول فى القرآن ؟ 
فقال : هو كلام الله . 
فقال : أمخلوق هو ؟ 
قال : هو كلام الله . 
فقال الواثق : فما تقول فى ربك ؟ أتراه يوم القيامة ؟ 
قال : ياأمير المؤمنين قال تعالى : " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر " .
قال الواثق : ويحك أيُرى كما يرى الجسم المحدود ، ويحويه مكان ، ويحصره الناظر؟ 
ثم قال لمن حوله : ما تقولون فى هذا الرجل ؟ 
قال أحدهم : هو حلال الدم .
وقال آخر : اسقنى دمه ياأمير المؤمنين . 
فقال الواثق : إذا رأيتمونى قمت إليه فلا يقومن أحد معى ، فإنى أحتسب خطاى إلى هذا الكافر الذى يعبد ربا لا نعبده ، ولا نعرفه بالصفة التى وصفه بها .

     ثم نهض إليه بالسيف وضربه ، ثم قام أحد الحاضرين فضرب عنقه وحز رأسه ، وصلب الجسد ، وحمل الرأس إلى بغداد فنصب فيها من سنة 231ه إلى أن تولى المتوكل الخلافة بعد أخيه الواثق سنة 237ه ، فجمع أهله بين رأسه وجثته ، ودفن بأمر المتوكل . وكان يحيى بن معين يترحم عليه ويقول : " قد ختم الله له بالشهادة ".

نصرة السنة وإكرام الإمام أحمد حتى وفاته

    استبشر الناس بولاية المتوكل خيرا ، فإنه  كان محبا للسنة وأهلها ، ورفع المحنة عن الناس، وكتب إلى الآفاق ألا يتكلم أحدا فى القول بخلق القرآن ، ثم كتب إلى نائبه ببغداد أن يبعث بأحمد إليه ، فاستدعاه وأكرمه لما يعلم من إعظام الخليفة له ، وإجلاله إياه ، ولما علم أهل البدعة ظهور المودة بين الخليفة والإمام أحمد ، حاولوا الوشاية به ، فزعموا أن رجلا من العلويين نصبه أحمد بن حنبل خليفة ، وقد آواه إلى منزله ، وهو يبايع الناس له فى الباطن ، فأمر الخليفة أن يحاصر العسكر منزل الإمام ، وفتشوه ، فلم يروا شيئا ، فعلم المتوكل براءته مما نسب إليه ، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم ، فامتنع الإمام من قبولها ، فقال رسول الخليفة : إنى أخشى من ردك إياها أن تقع وحشة بينك وبين الخليفة ، فوضعها عنده ، ففرقها أحمد فى الفقراء من أهل الحديث ولم يبق منها درهما ، ولم يعط لأهله شيئا ، وهم فى غاية الفقر والجهد .

    وكتب رجل من المعتزلة إلى المتوكل يقول : إن أحمد يشتم آباءك ويرميهم بالزندقة ، فكتب إليه المتوكل : أما المأمون فإنه خلط الحق بالباطل ، فسلط الناس على نفسه ، وأما أبى المعتصم فكان رجل حرب ولم يكن له بصر بالكلام ، وأما أخى الواثق فإنه استحق ما قيل فيه ، ثم أمر بضرب الرجل الذى رفع إليه الرقعة مائتى سوط .
    واشتد المرض على الإمام أحمد تسعة أيام ، فكان الناس يدخلون عليه أفواجا ، يسلمون ويرد بيده ، واجتمع الناس من الأكابر والعامة بالآلاف حول بيته لعيادته .

    مات الإمام أحمد ، وعلت الأصوات بالبكاء ، وخرج الناس بنعشه ، والخلائق من حوله لا يعلم عددهم إلا الله ، وكان يقول : قولوا لأهل البدع : بيننا وبينكم يوم الجنائز. 

    يعنى : أن أهل العلم يحمدون عند موتهم بذكر تمسكهم بالسنة . 

   قال أحمد بن الوراق : ما بلغنا أن جمعا فى الجاهلية ولا فى الإسلام ، اجتمعوا فى جنازة أكثر من الجمع الذى اجتمع على جنازة أحمد بن حنبل .

نصرة السنة وانتقام الله من دعاة البدعة 

    لقد جعل الله فى قصة الإمام أحمد ومن ناصره على التمسك بالسنة ، آية على عدل الله فى الظالمين الذين قتلوا من خالفهم من المسلمين . 

    قال المتوكل لوزير الواثق محمد بن عبد الملك بن الزيات : فى قلبى شئ من قتل أحمد بن نصر ، فقال : ياأمير المؤمنين ، أحرقنى الله بالنار، إن أمير المؤمنين الواثق قتله كافرا مرتدا . 

    ودخل عليه هرثمة ، وكان قد حضر التمثيل بجثة أحمد بن نصر ، فقال له المتوكل : فى قلبى شئ من قتل أحمد بن نصر ، فقال : ياأمير المؤمنين قطعنى الله إربا إربا ، لقد قتله الواثق  كافرا مرتدا .

    ودخل عليه الخبيث أحمد بن أبى دؤاد ، فقال له المتوكل : فى قلبى شئ من قتل أحمد بن نصر ، فقال : ياأمير المؤمنين ضربنى الله بالفالج –الشلل – إن أمير المؤمنين الواثق قتله كافرا مرتدا .

    وقد تم عدل الله فيهم وهم أحياء ، فقد أمر المتوكل بالقبض على ابن الزيات ، وصادر أمواله ومحاصيله وضياعه ، وأمر جنده أن يعذبوه كما عذب العلماء ، وأحرقوه فى تنور ، ثم سلموا جثته إلى أولاده فدفنوه ، ونبشت الكلاب جثته ، وأكلت كما بقى من لحمه وجلده .

    ثم أمر بأحمد بن أبى دؤاد ، فأشهد عليه نفسه ببيع ضياعه وأملاكه ، ورد أمواله إلى بيت المال ، فاغتم وأصابه الشلل أربعة أعوام ، لا يجد من يقوم على خدمته ، أو مساعدته فى قضاء حاجته ، جزاء وفاقا لما فعل بالإمام أحمد ، حين قيده فى الأغلال ؛ ليعجز عن قضاء حاجته وتطهير نفسه ، وصار عبرة للناس ببدعته ، يقولون انتقام الله لأحمد بن حنبل ،وأحمد بن نصر .

    وأما هرثمة المعتزلى فقد فر هاربا متخفيا ، فمر دون أن يدرى بقبيلة خزاعة وهى قبيلة احمد بن نصر الخزاعى ، ففتكوا به ، وقطعوه إربا إربا ، ومزقوا أوصاله .

الفرق بين اعتقاد الأشعرى وعقيدة الأشعرية

    رفعت المحنة فى عهد المتوكل سنة 232ه ، وانتصر لأهل السنة ، وأكرم إمامهم ، الإمام أحمد بن حنبل، غير أن أمور العقيدة لم تعد على نقائها فيما سلف ، بل تشبعت بالفلسفات العقلية فى المسائل الغيبية ، وفى خضم تلك المعمعة الفكرية ولد أبو الحسن الأشعرى الذى تنسب إليه فرقة الأشعرية ، نشأ بالبصرة يتيما ، فتزوجت أمه رجلا من المعتزلة يقال له أبو على الجبائى ، فتربى فى حجره ، وتعلم من فنه فى نفى صفات الله ، فأقام على المذهب الاعتزالى أربعين سنة ، وأخذ يجمع أقوال الضالين ، وينظر فيها ، ويدققها ، حتى ألف فى ذلك كتابا كبيرا سماه ( مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ) وبين فيه أن الأدلة العقلية تكافأت عنده فى الاعتقادات الغيبية ، ولم يترجح لديه شئ من الآراء الاعتزالية . 

    وقد ذكر الأشعرى أنه رأى النبى صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فى المنام فى ليالى شهر رمضان ، فقال له : يا على ، انصر المذاهب المروية عنى ، فإنها الحق . 

   فعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم يقصد نصرته فى باب العقيدة ، فأجمع على عدم الخوض فى الآراء الكلامية ، وأن يكثر من تلاوة الآيات القرآنية ، وأن يلم بالأحاديث النبوية فى أمور العقيدة ، وأخذ فى نصرة الآيات والأحاديث التى وردت فى إثبات الاستواء ، وعلو الله على خلقه ، ورؤية المؤمن لربه ، والشفاعة بعد الموت ، وإثبات الصفات.

    خرج الأشعرى إلى المسجد الجامع واعتلى المنبر ، وقال : معاشر الناس ، إنى قد استهديت الله تعالى فهدانى إلى اعتقاد ما أودعته فى كتابى هذا ( الإبانة عن أصول الديانة ) وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده ، كما انخلعت من ثوبى هذا ، وخلع ثوبا كان عليه ورمى به .

    فمنهج أبى الحسن الأشعرى منهج سلفى ، وقد سعى بكل حجة نصية أو عقلية ؛ لإثبات ماأثبته الله لنفسه ، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف أو تعطيل أو تكييف أو تمثيل . 

    وأما المذهب الأشعرى الذى ظهر بعد عصر المعتزلة ، فهو محاولة للتوفيق بين طريقة السلف فى تصديق الخبر الذى ورد به النص ، والمنهج الاعتزالى العقلى الذى يقبل من النصوص ما وافق العقل ، ويعطل ويؤول ما خالفه ؛ فأثبتوا لله تعالى خمس صفات سلبية ، وسبع معنوية ، وما عدا ذلك من النصوص الخبرية فهى موهمة للتشبيه والجسمية . 

    ومن أبرز أئمة الأشعرية : الباقلانى ، والاسفرايينى ، والقشيرى ، والشيرازى ، والجوينى ، والغزالى ، وأخطرهم - قبل توبته – الفخر الرازى ، واعتقاد الرازى هو المعبر عن المذهب الأشعرى فى مرحلته الأخيرة والسائد الآن فى البلاد الإسلامية ، والمقرر على طلبة المعاهد والجامعات الإسلامية .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ